أود في هذا المقام أن ألقي الضوء على أظهر التطلعات التي يتوخى تحقيقها في مجال تعليم العربية مستقبلا:
1. العربيّة لغة واسعة في بُعديها الزماني والمكاني، وقد تراكم في حاضرها: القديمُ والحديث، ولذا فقد بات لزاماً أن نحدد ما نريد من تعلّمها، في الصرف والنحو والأساليب، وهذا ما تسعى إليه لغات حيّة لا يمتد عمق الثقافة اللغويّة فيها، إلى ما يمتد إليه عُمق الثقافة اللغويّة العربيّة، ومع ذلك فقد سعوا إلى تحديد ما يريدون في ضوء هدف واضح يرمي إلى إيجاز الطريق على المتعلّم في الوصول إلى الهدف من اللغة، وهو تحقيق التواصل بأقلِ ما يمكن تَعلمه من قواعد النحو والصرف والصوت والأساليب والمفردات، دون حاجة إلى استعمالات مهجورة، لا يبعث فيها الحياة أن يُتَكلّف لها موضوع حيّ، ويحضرني هنا ما تكلفه مؤلفو كتاب (النحو والصرف للصف الثاني الثانوي الأدبي والشرعي، المقرر الحالي([1]) ص 50-55) لِيَبثّ الحياة في كلمتي كَرَب واخلولق، حرصاً منهم على مبدأ الوفاء بحشد ما ورد في الكتب التراثية من أفعال دالة على الشروع، فكان مثال كَرَب عندهم هو: كَرَبَ فريقُ كرة القدم الوطنيُّ يُتمُّ استعداده للمشاركة في البطولة الدوليّة، ومثال اخلولق هو: اخلولق الأمن الغذائي أن يشمل المجتمعات الفقيرة.
2. نحتاج إلى وعيٍ تتَمثّل فيه أهداف واضحة عمليّة، من وراء تعليم اللغة، فالواقع الحالي يَنُمّ عن أننا نركز على هدف الكتابة أكثرَ من تركيزنا على القراءة والتكلّم، ومن أمثلة ذلك أن نضبط أواخر الكلمات عند انتهاء الجُمل، ونقول بعدئذٍ للطفل: لا تحرك عند الوقف.
وكثيراً ما تحوّلت حصة التعبير إلى ممارسة كتابية صامتة، دون أن تكون فرصة للتحدث، وكثيراً ما كانت حصة القراءة الجهريّة قاعة محكمة يتجبّر فيها المدّرس بألوان من السلوك الانفعالي القاسي، وعلى العموم، فإن الهدف المنطوق من اللغة يظل هدفاً تنقصه المهارات الجادة في مجال القراءة الجهريّة، والتعبير الجهري، والمواقف المنطوقة المتنوعة كالحوار، والخطابة، والمحاضرة، وهذا ما تعكسه مواقف الطلبة حتى في المراحل الجامعيّة، إذ هم يجرؤون على التعبير الكتابي أكثر من جرأتهم على التعبير المنطوق بالفصحى، التي يفرّون منها إلى التعبير باللهجات المحليّة.
3. من مقتضيات التفكير العملي لغوياً، ألاّ يتحكم التفسير الشكلي للغة في مضمونها، كما لو كانت قواعدُ المضمون تتطابق دائماً مع قواعد الشكل في اللغة، أي لغة، وبالتالي يُبني على ذلك، خطأ، توهمُ أن التفسير الشكلي ينبغي أن يكون خاضعاً للمنطق ذاته الذي يخضع له تفسير المضمون؛ فالمضمون أقرب إلى درس المنطق الذي لا يختلف فيه الناس، على اختلاف لغاتهم، وأماّ من حيث الشكل فلكل لغة منطقها الخاص الذي ينبع من خصوصية نسيجها اللغوي الذي يميزها عن غيرها، وأحسب أن هذا المبدأ لم يراع في بعض جوانب التأليف اللغوي الذي بُنيت عليه الكتب المدرسيّة، فلو كنّا نراعي ذلك لما أدت بنا الرغبة الملّحة في تفسير نصب الحال (الهدف الشكلي) إلى أن نجعل من السؤال بـ "كيف" ميزاناً نبني عليه كلّ مفهوم الحال " مضموناً" كما لو كان النصب مشروطاً بمضمون " كيف".
انظر مثلاً تحكمّ " كيف" في درس الحال، في كتاب قواعد اللغة العربيّة، المقرر الحالي (ص173 وما بعدها) مع أن قواعد الحال شكليّاً لا ينبغي أن تحول دون عدّ جمل من نحو: (جلس الرجال يستريحون، أو وقفت أنتظر زيداً، أو قابلت المسؤول أعرض عليه مشكلتي) جملاً لا تجيب عن " كيف" بالدرجة الأولى، وإنما تجيب عن " لماذا"، ولكنه الخلط بين مقتضيات التفسير الشكلي والمضمون.
4. لا تستطيع اللغة أن تتوسع في أشكالها وقوالبها بما يجاري تَوَسّع مضامينها، ولذا فقد ألِفنا في تاريخ كثير من اللغات أن تميل اللغة إلى تحميل الشكل الواحد مجموعة من المضامين، وأن تختصر كثيراً من الأشكال التي تسقط على درب التطوّر الذي تمرّ به اللغة في رحلة ارتقائها، وهذا ما حدث في أبنية الأفعال العربيّة، وفي ألوان من الجموع، والمصادر، وبعض أبنية المشتقات، وقد جرى ما يشبه ذلك في لغات أخرى أيضا.ً فالألمانية الدارجة اختصرت صيغ الأزمنة القديمة فيها، لتُحَمّل وظيفتها عدداً قليلاً تبقّى في واقع الاستعمال اليومي.
وأما العربيّة فمما زاد في قواعدها أن تقعيدها ابتداء كان يقوم على أساس من التوسع في اختيار المستويات اللغويّة من شعرية ونثرية، وللشعر خصوصياته التي كان ينبغي أن تُفْصَلَ عن المستويات العادية، التي تجمع بينه وبين النثر، فصلاً أوسع مما نصت عليه كتب الضرائر الشعرية، ولكن عدم الفصل هذا، جعل قواعد اللغة تُثْقَل بكثرة القواعد من جهة، وتتميّع من جهة أخرى بما لا يُعرف: أهو من خصوصيات الشعر أم مما تجيزه اللغة في أوضاع الاستعمال العادي، كما أن المعياريّة العربيّة قامت على تأليف القواعد مما تَنَوعت فيه اللهجات، فتداخلت العموميات التي تجمعها، بالخصوصيات التي يوقف إزاءها بحيرة: أهي من العموميات التي ينبغي أن يُحرص عليها، أم من الخصوصيات التي يمكن الاستغناء عنها؟ وقد ترتب على هذا ـ وفي ظل غياب منهج واضح في الفرز الإحصائي الذي يعطي الأشياء قيمة تتناسب وشيوعها - أن جاءت كتبنا المدرسيّة حافلة بما يلزم وبما لا يلزم، وفي هذا ما يفسر وجود هذا "الكم" الهائل من القواعد وأوجه التعدد التي تَثْقُل على الناشئة، وبخاصة حين يُفرض عليهم معرفة أبنية أو قواعد نحويةٍ لا يستطيعون توظيفها، وقد ترتب على هذا أن تُحشد لهم القواعد حشداً عشوائياً، يَسْتهدف الوفاء باستحضارها من الكتب التراثية إلى الكتب المدرسيّة استحضاراً جعل الكتب المدرسيّة، تُقدَّم للناشئة مادة مكتظة بالقواعد، وبخاصة في المراحل المتأخرة من الرحلة المدرسية، بحجة أن مدارك التلاميذ في الصفوف الأخيرة قد اتّسعت بما يؤهلهم لاستيعاب هذا الحشد من القواعد، وبحجة أن الرحلة المدرسيّة قد آذنت بالانتهاء، فلا بُد من إيـداع ما تبقى منها، من قواعد اللغة.
ولطالما أحس المدرسون بضيق الوقت المخصص للوفاء بحق تعليم العربيّة في مدارسنا، وهذا أمر خطير بحق، فكأننا بضيق الوقت نتعمد أن نحشـر الأشياء في عنق الزجاجة، أو كأننا بتضييق الطريق وتكثيف السير فيها لا نريد لحوادث المرور أن تكثر.
ولو أن مستعرضاً مَحّصَ هذه القواعد لوجد إلى جانب سمة الاكتظاظ فيها، سمةً أخرى، وهي سمة النقص، فالكتب المدرسيّة التي تعج بأبواب النحو والصرف وبتفصيلات هذه الأبواب التي خُدمت خدمة تراثية، ما تزال فقيرة في مجال الدرس الصوتي، حتى كاد نظام المقطع يكون مغيباً منها، وقل مثل ذلك، في تأثير بعض الأصوات على بعض، في نطق الكلمة والجملة، وفي وضع الكلمة حين تنطق منفردة، ووضعها في بيئتها من الجملة والنص.
وقد تزداد الحاجة إلى مثل هذا في مستويات الأطفال الصغار في المراحـل الدراسيّة الأولى، حين تكون أعضاء النطق لديهم في حاجة إلى الارتقاء والنضج، بل إن بعضهم يظل يعاني لغوياً ونفسياً واجتماعياً، إلى مراحل متقدمة من العمر، من بعض المشكلات النطقية التي يُنتظر من الكتاب المقرر أن يساعدهم فيها، كأن تُحَل مشكلة تداخل الأصوات عندهم، أو تأثير بعضها في بعض، فيأتي الكلام واضحاً بدلاً من أن يظل مغمغما مُلْتفّاً غامضاً.
ولأضرب مثلاً آخر من النحو، فعلى الرغم من وجود تفصيلات لكل من جملة الشرط وجملة الصلة، وجملة الحال وغيرها، إلاّ أننا لا نجد درساً واحداً تجمعت فيه التراكيب الدالة على أنواع الزمن في العربيّة، ويعود السبب في عدم إنصاف التعبير الزمنيّ في العربيّة إلى ذلك الوفاء الأعمى للمعياريّة التي لا يُراد لها أن تخرج عن مقولات من نحو:"وُلد النحو بأسنان.. ومن أراد أن يضع كتاباً في النحو بعد سيبويه فليستح".
وأحسب أن علم البلاغة قد أصابه الأذى أكثر مما أصاب أيّ علم من علوم اللغة، فإذا كان الصرف والنحو من ثوابت اللغة، وكأن الثبوت على المعايير القديمة لا يؤذيهما كثيراً، فإن الثبوت على قواعد البلاغة القديمة قد أوجعها وأوهنها وعَقّدَها، لأن البلاغة - رغم بعض ثوابتها النسبيّة - تظل من المتغيرات التي تتغير بتغير الذوق العام.
5. ثمة تحسس بالغ نْبديه إزاء العاميات، وهو تحسّس مفرط ينبع من نظرة استعلائية، تحكم أحياناً بأن الاستعمال خطأ، لأنه مستساغ متداول في العاميّة، فكأنما يراد بذلك أن تُعزل اللغة عن الوسط الاجتماعي الذي تُمارس فيه ممارسة لا تحتاج معها إلى أي قدر من التعليم، وعلى هذا قد يُخَطّأ من يقول: دُوَليّ وقُرَوِيّ، ومِهَنيّ.. وهكذا، أي بأن تكون النسبة للجمع، وذلك لأن القاعدة البصريّة العتيدة تقتضي بأن تكون النسبة للمفرد، مع أن القاعدة الكوفية تجيز النسبة إلى الجمع، والعامّة حين تقول مثلاً: مجلس الأمن الدُّوَليّ، لا تعني دولة بعينها، وإنما تعني النسبة إلى مجموعة الدول، وكذلك النسبة إلى المِهَن فيقولون: مركز التدريب المهِني، أي الذي يُتَدرَب فيه على مجموعة من المهن، والمجلس القُرَوي الذي تنتسب إليه مجموعة من القرى، فلماذا لا يُتخذ من ذلك توسعة على اللغة؟ فيكون الدُّوْليّ دالاً على النسبة إلى دولة بعينها، والدُّوَلي حين تكون النسبة إلى مجموعة من الدول.
إن التواصل بين الفصحى والعاميّة أمر مطلوب ومرغوب فيه، ولا ينبغي أن يُعادى، ولا نملك أن نفرّ منه، وهو ما حدث على مَرّ العصور، وغاية ما يُطمح فيه أن نراقب التدرّج في رأب الهُوّة كلما اتسعت بينهما، ليكون ذلك لصالح الفصحى، ورُجحان كفّتها، وعلى هذا كنتُ استحسن من بعض الكتب المدرسيّة أن تأتي بأمثلة على التصغير من واقع ما يجري على ألسنة العامة، ما دام يَتّفق ونواميس الفصحى نحو: صويلح وسويلم وعبيد وسهيل (مذكرة في قواعد اللغة العربيّة للصف الثاني الثانوي الأدبي والعلمي والتجاري، المقرر السابق ص109) أماّ أن يُؤتى بألفاظ من نحو لا يُعهد تصغيره، فيقال: كيف تطبق عليه قاعدة التصغير، فهذا يجعل اللغة صعبة، ومراسَها عنيداً، ويحيل قواعدها إلى رياضة ذهنيّة عسرة، ولا يخدم الفصحى، فقاعدة التصغير مثلاً ينبغي أن تنطلق من الواقع العملي، لا المتخيل، الذي كان يتسلى به الترف النحوي، حين كان يقال: كيف تصغر أو تنسب إلى رجل سُمّي: كيف، أو سمي: في، أو: على…أو كيف تصغر: سفرجل، أو إبراهيم. (لمزيد من التفصيل عـن التواصل بين العاميّة والفصحى، انظر كتابي: المستشرقون والمناهج اللغوية، ص114، الطبعة الثانية).
6. نحتاج في تقديم المادة اللغويّة إلى منهجية واضحة تستسيغها الناشئة، فلا يكفي أن يقال: نبدأ بالأسهل ثم نتدرج من ذلك إلى الأصعب، فهذا لا يُغني عن طرح بنائيّ للأبواب، كأن يَعْرف الناشئ شيئاً من الصرف، كالمجرد والمزيد، قبل أن يبدأ باستخدام المعجم، وإلاّ فسوف يُضطر إلى ما اضطر إليه مؤلفو كتاب اللغة العربيّة للصف السادس، المقرر القديم، إذ رَتَّبوا معجم المفردات الصعبة في آخر الكتاب، وفق الحرف الأول فالثاني.. للكلمة، دون النظر إلى حروفها الأصلية أو أساسها الاشتقاقيّ.
وعلى ذلك ينبغي أن يُبنى درس المبتدأ والخبر، على أساس من معرفة الجملة الاسميّة، وأن يُبنى درس النواسخ على أساس من معرفة المبتدأ والخبر، وأن يبنى درس الفاعل على أساس من معرفة الجملة الفعليّة، وأن يبنى درس نائب الفاعل على أساس معرفةٍ بالفاعل، وأن يبنى درس الحال والتمييز والشـرط والتعجب.. على أساس من المعرفة بالجملة الاسمية والجملة الفعلية، وعلى ذلك أيضاً ينبغي أن يُنظر إلى أن الكلمة تتألف من مقاطع، والمقاطع من أصوات، وهكذا.. فهذا أساس لا بدّ منه في معرفة الأصول وأصول الأصول، والفروع وما يتفرع عنها، في النحو والصرف والصوت، فهذه النواميس اللغويّة العامة ينبغي أن تراعى، ولا يدخل في هذا الأساس البنائي أن يؤتى بالمرفوعات جميعها، ثم المنصوبات ثم المجرورات، إذ الأولى من ذلك أن يأخذ المؤلف شيئاً من هذه وشيئاً من تلك، وربما شيئاً رابعاً لا من هذه ولا تلك، فالنحو أوسع من أن يُحصر في هذه المصطلحات الثلاثة: مرفوع، ومنصوب ومجرور أو مجزوم، أي هو أوسع من أن يحصر في عامل ومعمول، فثمة أشياء لا تعمل ولا يُعمل بها، وثمّة نظرات أخرى تخرج عن نظرّية العامل، التي تفسر الشكل، إذ قد ينظر إلى النحو نظرة قائمة على المضمون، أو المراوحة بين الشكل والمضمون، فقد تُبحث اللغة من باب الأساليب كالنفي، والشرط، والزمن، والاستثناء، والحال، والتعجب، والاستفهام، والمدح والذم، وما شاكل ذلك. وهو أمر ممكن.
7. وثمة أساس آخر، وهو الشيوع المبني على الإحصاء، فنحن لا نزال نرتجل في تخمين الألفاظ الشائعة، التي نبني عليها نصوصنا المدرسيّة، وحسبنا أن نَذْكر تجربة قام بها أحد الباحثين الألمان، إذ حاول أن يقف على المشترك من الأفعال الشائعة في العربية، في كتب تعليميّة ثلاثة كبيرة، جاء بعضها في مجلدات عدة، فكان المشترك بينها لا يتجاوز مئة وخمسين فعلاً، والبقية أفعال اختلفت فيها هذه الكتب (انظر: الأفعال الشائعة في العربيّة المعاصرة لهارتموت بوبتسين، ترجمة إسماعيل عمايرة، منشورات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّة 1986م).
ولو كنّا نملك دراسات إحصائية لكان في وسعنا أن نقدم المادة اللغويّة في صورة معجمات صغيرة تتناسب وأعمار الناشئة، وثقافاتهم، ولكان في وسعنا في أبواب الصرف والنحو أن نعرف بأي القواعد نبدأ وبأيّها نثني، وعلى هذا فما تزال مناهجنا ومقرراتنا بحاجة إلى بنية تحتيّة وصفيّة إحصائيّة نعرف على أساسها كيف نقدم اللغة للناشئة بصورة مدروسة لا مرتجلة، وعلى هذا فإن المرء يعجب من هذا العبارات الهيّنة في كتابتها، حين نزعم في مقدمات هذه الكتب أننا نتخيّر الألفاظ والقواعد وفق شيوعها، فأين نحن من الدراسات الإحصائية الدقيقة التي تقف بنا على أرضية صُلبة تسمح لنا بالاطمئنان إلى حقيقة ما يحتاج إليه الأمر، حتى تُترجم هذه العبارات إلى واقع ينقلها من المزاعم والأماني والتخمينات، إلى الواقع الحقيقي القائم على أساس علمي، كما هي الحال في مقررات تدريس اللغات الحيّة.
وقد كان من سخريات الأمور أن تستسهل وزارات التربية والتعليم، فتؤبّط الصبية الصغار، مختصراً لمعجم الصحاح للجوهري، فتظن بذلك المختصر- وقد صغروا حرفه الطباعي - أنها قد وضعت بين أيدي الناشئة معجماً مناسباً، يعينهم في فهم ألفاظ الحياة، وما علموا بذلك أن المسألة ليست في اختصار هذا المعجم الجليل، أو سواه، ولا في تصغير طبعته وخطّه، وإنما في مدى ملاءمته للغرض، إن مثل هذه الأعمال، تخديريّة، لا تُغني عن أن تُؤلّف المعجمات بما يتناسب مع الحاجة الحقيقيّة الواعية من وراء أن يقتني الصغير معجماً يلبيّ حاجة عملية لديه، لا أن يكشف عن مفردات انسحب كثير منها من واقع الاستعمال، منذ زمن بعيد.
لقد أدركت عمليّاً قيمة العمل الإحصائي في فرز القواعد اللغويّة إثر تجربة عمليّة على باب الشرط، ثبت لي من خلالها أن عشرات من القواعد التي نصّت عليها كتب النحو لا لزوم لها، وحسبنا أن نعلم مثلاً أن من أدوات الشرط - التي لا يكاد يخلو من ذكرها كتاب نحويّ- ما لم نجد عليه شيئاً من الشواهد، في عينة مستفيضة من النصوص المحتج بها لغوياً، وأذكر من ذلك "أيان" التي يذكر لها النحاة شاهداً يتيماً، لم يرد في عينتي،"وإذ ما" التي يستشهد عليها النحاة بشاهدين لا ثالث لهما، كما أثبت لي الفرز الإحصائي مثلاً، أنّ الفعل الماضي أكثر شيوعاً من المضارع المجزوم في جملة الشرط، حتى إن نسبة شيوعه في بعض النصوص - ككتاب الرسالة للإمام الشافعي، المجلد الأوّل - قد بلغت 100%.
8. لا يخفى أن الكتب المدرسيّة - ومنها كتب تعليم العربيّة - تحتاج إلى مزيد من التنويع في تمريناتها، فالتنويع المدروس فيه تحريك للذهن، وبُعْد عن النمطية المملة، كما أن فيه إثارة وتشويقاً. ولذا بات من لوازم الوفاء بهذا المطلب أن تقوم بعض الدراسات بالاّطلاع على ما أُلّف في مقررات الدول العربيّة والأجنبيّة، بقصد حصر أنماط التمرينات والتدريبات اللغويّة فيها، وبيان الإيجابيات أو السلبيات لكلّ نمط فيها، وسيكون هذا الجهد جزءاً من البنية التحتيّة التي نعتمد عليها عند الشروع في تأليف مقرراتنا، أو تطويرها، فنتخير منها ما نحاكيه، أو نصوغ على منواله، أو نُعَدّله، وبالتالي نكون قد أغنينا تجربتنا في مجال حيويّ من مجالات التعليم،. وسيكون لهذا التنوع أثره الإيجابي في إنصـاف الأغراض النطقيّة، وبخاصة حين يكون من مقتضيات هذه التمرينات استخدام الأجهزة الصوتيّة والمعامل اللغويّة التي تمكن التلميذ من مراقبة أدائه من حيث الوقوف على الأخطاء، ومن حيث ملاحظة جمال الصوت، ومدى وضوحه، ومناسبته لمقتضى الحال.
9. مما يعجب له المرء أننا نشكو من تفاوت مستويات المدرسين، ولكننا نَكِل إليهم اختبار الطلبة، في كل صف من الصفوف المدرسيّة، فتأتي النتائج متفاوتة أيضاً، فثمة نوع من المدرسين يراعي جانب الذاكرة في التقويم، فتأتي أسئلته من نحو: اذكر، عدّد .. وثمة نوع يجمع بين أسئلة تقوّم الذاكرة والذكاء، ويوازن بينهما، ومنهم من يَعْرف أساسيات التقويم، ومنهم من لا يعرف منها إلاّ اليسير، ومن المدرسين من يُجزل في إعطاء الدرجات، فيخدع الطالب ويخدع أسرته بعلامات مرتفعة، ومنهم من تَشِحّ العلامات عندهم، فلا يكاد ينجح أحد، وقد تُعبر الدرجة المعطاة عند بعضهم عن مضمونها أو لا تعبّر..
وهكذا يصبح الاختبار خاضعاً لاعتبارات شخصيّة، قد يداخلها الهوى، أو قلة الخبرة أو ما شاكل ذلك من أمور تجعل المرء يشك في تنجيح الطلبة أو ترسيبهم على حدّ سواء.
وكان الأولى أن تصمم اختبارات تشخيصيّة تخضع لاعتبارات علميّة لكل مستوى، اختبارات جادة تشرف على إعدادها مؤسسات تعليميّة تربويّة نفسيّة، تقف بنا على مستوى أداء المدرس، والمدرسة، اختبارات مجرّبة مدروسة متطورة تختبر المنهاج والكتاب المقرر، والعمليّة التعليميّة بكل مقوماتها وأسسها وطموحاتها.
وينبغي أن تُعَدّ الاختبارات التشخيصيّة المؤسسة المجرّبة، لكل مُقَرّر، ولكلّ الصفوف المدرسيّة، فما أقل هذه الاختبارات، التي نستطيع بها أن نعرف مستويات المدارس والمدرسين والطلبة والكتب المدرسيّة وغير ذلك مـن مقومـات العمليّة التعليميّة اللغويّة وغير اللغويّة([2])!.
10. إن مسألة الضبط بالشكل مرهونة بطبيعة النظام الكتابي للعربيّة، والعربيّة في هذه المسألة واحدة من أسرة لغويّة تشابهت اللغات التي تتألف منها في أنها تهتم بالصوامت، وتهمل كثيراً من الصوائت، أي الحركات، وبخاصة الحركات القصيرة كالفتحة والضمة والكسرة، وقد تهمل الحركات الطويلة، والحركات الفرعيّة كالإمالة وما شاكلها، وهي سمة كتابية قديمة جداً، نلحظها في النصوص العربيّة والعربيّة الجنوبيّة، والآراميّة، والسريانية وغيرها، وقد ظل هذا التقليد دارجاً في هذه اللغات، ولم يعدُ إصلاح هذا النظام الكتابيّ، غير إكساب الحركات، في كل هذه اللغات نوعاً من الشرعيّة؛ بإيجاد رموز كتابية لها لا ترقى إلى مستوى الصوامت، كالباء والتاء والثاء والجيم والحاء.، وإنما توضع هذه الرموز الحركيّة فوق الصوامت، وعلى هذا عوملت الصوامت بوصفها أصولاً ثابتة في الكتابة، وعوملت الصوائت (الحركات) بوصفها شيئاً تابعاً متغيراً، وكأنما هي أحوال متغيرة لما هو ثابت، فالباء ـ وهي صامتة - وذات رمز كتابيّ - تحتمل أن تكون مكسورة أو مضمومة أو مفتوحة، كما تحتمل غير ذلك من الأحوال، كأن يكون كسرها بشدة، وكذلك ضمها، أو فتحها.
وعلى هذا فإن ضبط الصوامت بالحركة المناسبة أمر لازم إن أردنا الدقة وأردنا للكتابة أن تصور النطق الصحيح للكلمة أو الجملة، غير أن هذا ـ كما أسلفنا - يترتب عليه إثقال الحروف بالحركات، كما يعني أن تضرب عدد الصوامت بعدد ما يمكن أن يُضبط به من رموز فرعية، وعلى هذا فإن الباء مثلاً تحتمل أن تكون على نحوٍ ما، من الأشكال الكتابيّة الآتية:
بْ، بَ، بُ، بِ، بَّ، بُّ، بِّ، باً، بٌ، بٍ
ناهيك عن تعدّد أشكالها في أول الكلمة ووسطها وآخرها، موصولة ومنفردة، وهذا يعني أن يستوعب المتعامل مع النظام الكتابي جميع هذه الأشكال، مضروبة في عدد الصوامت في العربيّة.
وقد ترتّب على النظام الكتابيّ الموروث أن اشتركت بعض الأصوات المتباينة في رموز كتابية واحدة، فالياء والواو في نحو: يَلدِ ، وولد، هما صامتان ليِّنان (شبه حركة) ولكن الياء والواو في نحو: بريء، ونوح، هما صائتان أي كل منهما حركة طويلة، ومع ذلك فالرمز الكتابي واحد.
وقد أسمى اللغويون كل ما حَظي من الأصوات برمز كتابي ثابت (أي يُكتب في صلب الكلام) حرفاً، وعلى هذا فالباء والتاء حرفان، وكذلك الألف في نحو: ما، ولا ، وكلاّ، وما دامت الباء حرفاً ثابتاً، وهو يحتمل الحركات بوصفها شيئاً متغيراً، كأنها من الخصائص المتغيرة لذلك الثابت، فقد تخيلوا أن الألف تحتمل ذلك، فقالوا في ما: إنها مبنيّة على السكون ونسوا بذلك أنها حركة طويلة، لا يجوز في حقها أن تدعى ساكنة. وقالوا في: رأى: إنها مبنيّة على الفتح المقدر على الألف، وفي عيسى ـ في النص- إنه منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف. (قاسوه بنحو: عُمَرَ).
بل تخيل بعضهم أن فتحةً تسبق الألف التي تنتهي بها الأسماء الخمسة المنصوبة، نحو: أباً، وأخاً، ولعل في هذا ما يفسر سلوك الكاتب الذي يضع فتحة على الحرف الذي يسبق كل ألف، من نحو: وسائل وخالد، ونوايا.
والأمر نفسه قد حدث بالنسبة للواو أو الياء الصائتتين، فما دامت الواو صوتاً حظي برمز كتابي كالباء، فهي تحتمل السكون احتمال الباء لها، فقالوا في الواو المتصلة بالفعل الثلاثي (واو الجماعة) إنها ساكنة، وكذلك ياء المخاطبة في نحو: تلعبين وفي هذا ما يفسر لنا السلوك الكتابي لكسر الباء في تلعبين، وضم الواو في تلعبون، فما دامت الواو أو الياء حرفاً، أي له رمز كتابي، فهو عندهم لا يصلح أن يكون حركة، ولذا فقد تصوّروه ساكناً ووضعوا له السكون رمزاً، وما دام ساكناً، كان لابّد من حركة (سوى الواو أو الياء) للحرف الذي يسبق الواو أو يسبق الياء، فوضعوا الكسرة أو الضمة.
لقد ساعدنا التطوّر التقني الحديث في التخلّص آلياً من التغلّب على مشكلات كتابة الحروف في أول الكلمة أو وسطها أو آخرها، فما عاد يلزم من الكاتب على جهاز الحاسوب مثلاً سوى أن يضغط على الحرف، فيتولى الجهاز تحديد شكل الحرف تلقائياً بما يتناسب مع البداية أو الوسط أو النهاية، وهذا إنجاز كبير ولا شك، بَيْدَ أن المشكلة ظلّت تواجه الكتابة باليد.
وأما مشكلة الضبط بالحركات، فما تزال ماثلة أمام الكتابة اليدوية والآلية، وأخص الضبط بالحركات القصيرة، وعلى هذا كان لابد من التفكير في حلّ مناسب لمسألة الضبط بالشكل، وهي مسألة قديمة استسهل بعضهم لحلها أن يُغيّر الخط العربي، وهي كارثة بحق، فلئن أقدم الأتراك والأندونيسيون على تغيير كتابتهم واتخاذ الكتابة اللاتينيّة، فإن العرب لا يستطيعون ذلك، وإلا عبثوا بما أؤتمنوا عليه، أي الحفاظ على النصوص المقدسة التي جاءت بلسانهم، وهذه مسألة قد يحلوا لمن أراد أن يتناولها تناولاً سطحياً أن يماري فيها، ولا مجال هنا لأن يفاض في الحديث عن ذلك.
ورأى بعضهم أن يُطور الخط العربي لتصبح الحركات جميعها ذات رموز كتابيّة تدخل في صلب الكلمة، غير أن هذا الحلّ كذلك لم تطمئن به نفوس الناس، لأنه يحدث تغييراً كبيراً على نمط الكتابة الموروثة، ويصبح من الصعب به أن تقرأ النصوص التي كتبت بالنظام الكتابي الموروث.، وبالإجمال، نُظر إلى هذا الحل على أنه ـ يقل خطورة عن الحل السابق، بيد أنه ينطوي على كثير من المحاذير.
فماذا بقي بعدئذٍ، سوى أن نضبط كل شيء، وهذا حلّ مكِّلف، جهداً، ووقتاً، ومالاً، وهو لازم في النصوص المرجعية ـ كما أسلفنا - بيد أنه لا يلزم في طباعة النصوص العادية، كلغة الصحافة والمراسلات والروايات وما شاكل ذلك، وعلى هذا كان لابّد من تخير مواطن اللبس حتى يُقتصر على ضبطها، وحتى نخفف عن الحروف المثقلة، وعلى هذا كان يحسن بنا ما يلي:
ا) عدم ضبط ما قبل الألف، وما قبل الواو والياء إذا كانا حرفي مدّ وضبط ما قبلهما إذا كانا من الصوامت، في نحو: بَوْح وسَيل.
ب) ضبط تلك المشتقات التي لا يميز بينها إلاّ بالحركات نحو: أَفْعَلَ، أُفْعِلَ، أَفْعِلَ، أُفَعِّلُ، أفْعَلُ وقيس على ذلك المشتقات من نحو اسمي الزمان والمكان، نحو اسم المكان في مَحْلَب (مكان الحلب) واسم الآلة في نحو مِحْلَب (أداة الحلب) واسمي الفاعل والمفعول مما فوق الثلاثي: مُرْتجِع ـ مُرْتَجَع؛ والأمر: تناوَلْ، والماضي: تناوَلَ، والمصدر: تناوُل والمضارع: تُنِاول؛ والمثنى: مهندسَي المشروع والجمع: مهندسي المشروع.
ج) التعود على كتابة الشدّة في جميع مواقعها.
د) الاستغناء بالهمزة تحت الألف تغني عن تحريكها بالكسر في نحو: إنّ، ويبقى أمر الحركة مجالاً للفرق بين الهمزة المضمومة والهمزة المفتوحة، إذ تأتي الهمزة فوق الألف، ويقاس على ذلك شكل الهمزة إذا جاءت على واو، فإنها تغني عن ضمها وجوباً في نحو سماؤه، أو جاءت على ياء في نحو: سمائه.
ه) ضبط الجمل التي قد تقرأ على وجهين مختلفين، لا يفرق بينهما إلاّ الضبط بالشكل.
و) ضبط أسماء الأعلام وبخاصة الأجنبية (بيرْجِشْتريسر) وغير المألوفة (طَرَفة) أو المتشابهة (الزَّبيدي والزُّبَيْديّ).
ز) وقد يبقى احتمال اللبس قائماً، ينهض بالكشف عنه السياق وحده، وتوقّع مستوى المخاطب عُمْراً، وتعليماً، وقدرةً ذهنيّة، إلى غير ذلك من اعتبارات مختلفة، ولذا فإن هذه الضوابط قد يُزاد إليها أو يُنقص منها، في ضوء تجريبها، وتشخيص أحوال القُرّاء.
11. في ضوء المنظور مما يجري حولنا بهذه السرعة المتسارعة، في مجالات الحياة جميعاً، فإن اللغات - كالهويات الثقافيّة - تعيش صراع البقاء، وتتزاحم تزاحماً عجيباً، فكم من لغة كانت محليّة كالإنجليزيّة والفرنسية، ثم أصبحت عالميّة بوسائل العصر الحديث، وبمتغيرات أخرى في معادلة القوة والضعف الحضاريّ، فإذا أردنا للغتنا أن تزاحِم، وأن تعزز مقومات وجودها، فإن علينا أن نبذل المال والوقت والخبرة في سبيل تطوير الواقع كلّه، والواقعِ اللغوي من ضمنه، وأن نواجه تحديات العصر في مجال الاتصالات بأنواعها، وفي كل المجالات، وألاّ نكتفي بدور اليد السفلى التي تنتظر من اللغات المزدهرة الآن، بحثاً متطوراً تترجمه، أو برنامجاً حاسوبياً تُعرّبه، وقد يأتي التعريب مسخاً، لا هو بالعربي ولا هو بالأجنبّي، كصورة التعليم المدرسي والجامعي في بلادنا، لا شك في أن مناهجنا الحديثة اختلفت درجة عن وضعها قبل مئات السنين، لكن هذا التطور- الذي قد يكون خطوة إلى الإمام أو قد يكون خطوة إلى الوراء - يبقى كله خطوات متخلّفة، إذا ما وازنا ذلك بالخطى المتسارعة التي يسير فيها التطور العالمي، هائجاً مائجاً، وقد يتضمن الغث والسمين، وما ينفع وما يضر، وقد واجهته مدارسهم وجامعاتهم، أما نحن فكثير منّا لا يزال في خصام مع لحظة اليقظة من نوم عميق، متسائلاً: أيهما أنفع دفء الفراش ولو بأحلام مزعجة، أم يقظة تعتريها عقبات وواقع صعب، وفي مجال اللغة والتطوير التربوي يدور سؤال ربما يكون موازياً: أيهما أجدى أنَنقطع إلى الماضي، ومافيه، أم ننقطع عنه، ومنه، أم نواجه الحاضر بما ينفع من أسلحة الماضي والحاضر.
لعلّ من أخطر ما نعانيه في كليات اللغة العربية وأقسامها، أننا نركّز على الكمّ على حساب الكيف، وهذا عرَض من أعراض المرض، فقد اعتدنا أن نقسم مواد الأدب على ما اعتدنا عليه من تقسيمنا الأدب إلى عصور، فنخوض في خِضَمّ من الزمان والمكان، وتحوّلت بذلك نعمة الماضي المتصل بالحاضر، في تاريخ حضارتنا، إلى نقمة، فالرقعة المكانية للأدب العربي واسعة، والعصورعديدة متماسكة، ولكن الأدب فُتِّتَ إلى عصور كالعصر الجاهلي، وصدر الإسلام، والعصر الأموي، والعصر العباسي، وقد شُطِرَ هذا - بدوره - إلى عباسي أول، وعباسي ثان، وامتد التقسيم بامتداد رحلة الزمان التي استغرقت نحو سبعة عشر قرناً، ومع كل تقسيم زماني يحتمل الأمر تقسيماً مكانياً، فالأدب يقسم إلى أدب في بلاد الشام، وأدب في العراق، ومصر، والمغرب، والأندلس، وأما في العصر الحديث، فبلاد الشام أجزاء، فهناك الأدب في لبنان، والأدب في سورية، وفي فلسطين والأردن.
وقُلْ مثل ذلك في أجزاء الجزيرة والمغرب، ووادي النيل. وقد عرف الأدب تقسيماً آخر، كأدب القبائل والمدن والطبقات، وقد انسابت الخطط الدراسية في أقسام اللغة العربية، وراء هذا التجزيء بحجة ما له من منافع، فاستغرق منها معظم الساعات التي يمكن للطالب أن يقضيها في الجامعة، وكان ذلك على حساب مواد أخرى قلَّ نصيبها كاللغة، وبعض المواد المساندة للتخصص. وقد ترتب على ذلك أن سعى كثير من الأقسام إلى حشد محاضرات اللغة في بضع ساعات، يفي بها عدد ضئيل من الأساتذة، في حين أنها بسطت محاضرات الأدب، ووفر لها الأساتذة الذين يزيدون بكثيرعن أساتذة اللغة، وفي هذا ما يُسَوِّغ كثرة الرسائل الجامعيّة في الأدب وقلّتها في اللغة، علاوةً على صعوبة البحث اللغويّ في العادة، وجفافه.
ومع أن هذا التقسيم لا يخلو من فائدة لا تخفى - إذ هو يعطي فرصة لتركيز الضوء على فترة زمنية لها أهميتها، أو رقعة مكانية لها خصيصتها - غير أن له محاذيره، إذ يصعب أن نلتمس ما يُسَوّغ الإغراق فيها كلها أو جٌلّها، بوصفها هدفاً يُسْعى إلى حصره وتأبيده كماً، والإحاطة به في خطة دراسية محدودة الزمن، ناهيك عما قد انطوى عليه هذا الهدف من احتمال الانحياز إلى أهداف إقليمية، أو عرقية، أو ما شاكلها.، وقد رأينا من آثار ذلك كيف تتحول المحاضرة عند بعض الأساتذة إلى شكل من أشكال التعصب، الذي تُصَوّر فيه شخصية شاعر ما، في صورة ترتفع به عن آدميته، التي استمد منها مقومات فنّه، إلى شخصية تكاد تُؤلّه، أو ترقى لتصبح مَلَكاً يطل من سُدُم الفضاء، فيتناوله هؤلاء الآدميون من الباحثين - ما دام قد أصبح موضوع اهتمامهم وتركيزهم - بآي المديح والثناء، وقد يكون العكس - حين لا يكون الهوى مع ذلك الشاعر- فتهوي به الريح في مكان سحيق، ويُقذف بكل ما يَشين.
ليس الطالب الذي وُكِل أمر تخريجه إلى هذه الأقسام ملْكاً لها إلى الأبد، فالزمن الذي يقضيه فيها من عمره محدود، وهو لا يتسع إلى كل العصور، ولا إلى كل الأماكن والأصقاع، ولذا كان ينبغي أن تُحكم الخطط بما يراعي الزمن، فالجامعات بنظاميها، نطام الساعات المعتمدة، ونظام السنوات، تخصص للتخرج من المرحلة الجامعية الأولى، فترة زمنية محددة، وهي فترة مناسبة نسبياً، إذا ما قيس ذلك بالفترة التي يقضيها الطلبة في العادة، في النظام العالمي، للحصول على هذه الدرجة، وتقدر بأربع سنوات في النظام السنوي، أو بنحو مئة وثلاثين ساعة معتمدة في نظام الساعات، ومع تعدد مجالات الحياة، وتداخل أنواع التخصص، اتجهت الجامعات في المرحلة الجامعية الأولى إلى أن يُلَم من بعض العلوم الأخرى بطرف، وأصبح الأمريُتدرج معه في أبعاد ثلاثة، متطلبات عامة، وترى الجامعات أنها أساسية في بناء أي خريج، مهما كان تخصصه، وقد خصصت له بعض الجامعات من المواد ما سمي فيها، متطلبات جامعة، وتحتل المواد المخصصة لذلك نحو 25 - 30% من مجمل ما يدرسه الطالب في المرحلة الجامعية الأولى، ومتطلبات فيها قدر من التخصيص، تقترب بالطلبة - في العادة - من التخصصات التي تُقرّبهم من الانتماء إلى فروع كليتهم، وتُعَد من مستلزمات الخريج في تلك الكلية التي ينتمي إليها الطالب، وتتبوأ هذه من الخطة العامة 25 - 30%، وما تبقى فهو مواد من صلب تخصص الطالب، أي من 40 - 50%، وربما كانت فلسفة الجامعات في ذلك، أنّ الدرجة الجامعيّة الأولى، عامّة، وأن التخصص الدقيق يكون في الدرجتين التاليتين: الماجستير والدكتوراه، والذي أراه : ألاّ تقل نسبة المواد التخصصيّة في المرحلة الجامعيّة عن 60% من مجمل ما يأخذه الطالب.
فكيف - والرقعة الزمنية محدودة - نتصرف لنوازن بين الكم والكيف في بناء شخصية الطالب المتخصص في اللغة العربية وآدابها؟
لقد ثبت أن الوقت لا يتسع لاستيعاب كل العصور المتعددة، والأصقاع المترامية ولا يتسع لمنهجية الإغراق في التفصيلات، وإن المنبت في هذا الاتجاه، لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى، فلا هو حافظ على مبدأ الكم ولا على مبدأ الكيف، وقد أخذت الشكوى تزداد يوماً بعد يوم من ضعف الطلبة وضعف الباحثين.
ولست معنياً - هنا - بالحديث عن المواد غير التخصصيّة، إذ المقصود المواد التخصصيّة من الخطة العامة لدرجة البكالوريوس، على أن المواد غير التخصصيّة، تعاني من عدم الفهم السليم لفلسفة وجودها، وقد ينعكس هذا على كيفيّة تدريسها، وكيفيّة تلقيها، بفتور من المدرس، وزهد من الطالب فيها.
كان يمكن أن تقتصر كليات اللغة العربية وأقسامها، على شطر مناسب من المواد التخصصيّة، كأن يكون الربع منها، لتحقيق جانب الاستيعاب والشمول، ودراسة العصور والأماكن، على أن تُرسم التفصيلات والجزئيات بقدرها، كما تُرسم البلدان على الخرائط، فتبدو مُحْكَمة في مواقعها، وأشكالها ونسبة مساحاتها من المساحة العامة... وهكذا في مسيرة الأدب، ففي هذا النوع من المواد، يظفر الطالب بتصور شمولي لكل فترة زمنية أو بيئة مكانية، وفي خط أفقي عريض، لا يُركّز فيه على جغرافيا الأدب، في تفصيلاتها والتواءاتها وشعابها، فيكون الطالب بذلك عرضة إلى أن يضيع في بُنَيّات الطريق، وإنما تُقَدَّم له الصورة في مخطط محكم عريض، يشبه مخططات المدن الكبرى، التي تقف بالسائح عند أظهر المعالم وأهمها.
إن عقلية الغوص في متاهات التفتيت والتجزيء، ربما تكون مسؤولة عن افتقار حياتنا العلمية إلى أعمال منهجية، موسوعية، فكم من بحوث جزئية في مكتباتنا العربية، لكنها تظل كأوراق هائمة، لا تربطها بشجرة العمل الكلي رابطة، ولا تمتد منها خيوط تصلح لأن تربطها بعمل موسوعي جامع، ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى أن كثيراً من باحثينا المحْدثين قد رُبّوا على أن يروا الأشياء في صورتها الفُسَيْفسائيّة المجزأة، أكثر مما رُبّوا على استشراف الصورة العامّة، وإيقاع الجزيئات موقعها منها.
وحتى الأعمال الموسوعية التي بين أيدينا - على تواضعها كمّاً وكيفاً - ما تزال تظهر عليها السمة الفردية المحدودة، فأين هي من الموسوعات المؤسسية الجامعة، التي تستوعب تاريخ الحضارة من ماضيها إلى حاضرها، وتسجّل خُطى مسيرتها في مجالات اللغة والأدب والسياسة والاقتصاد، إن حياة الناشئة تفتقر إلى ما يربى فيهم مَلَكَة الإطلالة الموسوعية، التي تضع الجزء في مقامه، وفي مكان استحقاقه.
فالغاية المتوخاة من ربع المواد المتخصصة أن يستشرف الطالب، أكبر "كَمّ" يمكن أن يأخذه مما اتسعت به رقعة المكان والزمان، في مواد مدخلية عامة، كتاريخ الأدب، وتاريخ النقد، وتاريخ النحو، وتاريخ البلاغة.. ويكون في الوقت نفسه، قد تربى، في ضوء دراسته لهذه المواد المدخليّة - تربية كيفية منهجية، عرف بها كيف يكوّن من التفصيلات والتفاريق بناء محكماً.
على أن الأهم من ذلك، الذي ينبغي أن تخصص له ثلاثة أرباع المواد، هو جانب الكيف، أو المنهجية، والمواد المنهجية غايتها التركيز على المنهج في تناول الظواهر وتحليلها، لا على الكم والمعلومات، فالطالب يُلمُّ بالمعلومات والتفصيلات والتواريخ والإحصاءات، لتصبح المعلومة إلى جانب المعلومة، كاللبنة إلى جانب اللبنة في تكوين بناء له مزاياه وشخصيته الفنية.
إن العناية بالمنهج تتطلب العناية بالمعلومة, ولكن المعلومات لا تأتي مفككة وإنما يستدعيها المنهج في مواقعها، حتى تصبح المعلومات في مجموعها، كأنما هي حبات من الخرز، والمنهج ينتظمها، ويشكل منها عقداً، بدونه يتعذر انتظام العقد حتى لو ملأنا الأرض خرزاً، ولؤلؤاً.
وتحضرني هنا بعض الأمثلة، أتناولها من الرسائل العلمية لدرجتي الماجستير والدكتوراه، فقد سُئل أحد الطلبة في مناقشة أطروحته لنيل الدكتوراه، عن إحصاءات تشكل ثلث رسالته، عن هدفه منها، ولماذا أعدّها، فعرفت من إجابته أن لا هدف له من ذلك، سوى أن يُحَلّي رسالته بعقود من القوائم الإحصائية التي تفتقر إلى الدقة في ذاتها، وتفتقر إلى التوظيف مع غيرها، وثمّة باحث آخر من درجة الماجستير، يقدم معطيات إحصائية، تأتي موشحة بعبارات من نحو: "يطرد هذا الأمر أو يتواتر هذا الأمر مرة واحدة"، دون أن يعي أن الاطراد والتواتر لا يتناسب مع المرة الواحدة.
وسئل أحدهم عن عبارات من نحو، وهذا كثير، أو وهذا شائع، كيف تترجم هذه التعبيرات العائمة إلى أرقام وأنت تسير على المنهج الإحصائي، فلم يقدم أرقاماً دقيقة، وإنما عبر بقوله، بالمئات والآلاف، في حين أن الحالة التي كان يتحدث عنها لم تحظ إحصائياً بأكثر من ثلاث جمل فقط.
وثمة طالب (دكتوراه) يُسأل في مناقشة أطروحته، ما علاقة هذا النص التراثيّ الذي حققته بموضوع رسالتك، وهي بعيدة عن مجال التحقيق، فتكون الإجابة: إنني حصلت عليه بصعوبة من إحدى المكتبات، فأردت أن أثبته في رسالتي، ثم سئل عن بعض ما ورد في النص، وهو لا يتجاوز صفحتين، من غموض، فأبدى اعتذاره عن عدم فهم النص كله، وحسبه أنه أتاح لنص قديم مكتوب باليد أن يظهر في حرف مطبعي حديث. نعم، إلى هذه "الدركات" تتردى الدراسات العليا أحياناً، وإن كان الطلبة يحصلون على "الدرجات"، ثم تأتي، من بَعْدُ، معاناةُ الأجيال من خريج تسلح بالدرجات العُليا والعلم القليل.
وكم من طالب أنهى المرحلة الجامعيّة دون أن يستعير كتاباً من المكتبة؟ مقتصراً على ما يمكن أن يجتزئه من فراغ نفسه أثناء المحاضرة، حتى يحصل على بعض ما تركه صدى صوت المعلم، وتكراره، من أصداء معلومات لا تستقر بوثوق في النفس، لكنها تكفي، مع شيء من استدرار الشفقة والعطف، لوضعه في مصافّ الناجحين.
وكم تجرّأ بعض الباحثين الساعين نحو أعلى الدرجات العلميّة، على استخدام مصطلحات علميّة منهجيّة، دون أن يتعمق في مرادها، كأن يزعم أنه سوف يسير على المنهج التاريخيّ، أو البنيويّ، أو الوظيفيّ.. دون أن يُلمّ بأصول هذه المناهج، وأهدافها، ومزاياها، والعقبات التي تعترض الباحث الذي يسير عليها، والوسائل اللازمة لسيره عليها، إلى غير ذلك من أمور.
وكم تجرأ على كتب التراث من محققين، أرادوا لكتب التراث أن تظهر في مظهر لائق بها، فما زادوها إلاّ غموضاً، فيا ليت أقسام اللغة العربيّة تكُفّ أيدي الباحثين في جميع المراحل الجامعيّة عن العبث بحُرمة التراث، إذ يُقْدم الطلبة على مجال التحقيق دون أن يتمرّسوا بالقدر الكافي في هذا الفن، الذي يحتاج إلى نضج ودراية وخبرة واسعة، فإن كثيراً من كتب التراث المحققة المنشورة تحتاج إلى إعادة تحقيق، بيد أنها قبل ذلك تحتاج إلى أن يُنظّف السوق منها، حتى يُقْبِل الناشر على المجازفة بإعادة نشرها دون أن يتعرض للخسارة الماديّة، ولكم كانت المأساة التراثية كبيرة حين أقبل نفر من الأساتذة الذين لا خبرة لهم، أو لا وقت لهم، فأشرفوا على موضوعات طلبتهم في مجال التحقيق، وقد عظم الخطب، بحقٍّ، حين استباح هؤلاء لأنفسهم حرمة النص في معناه تارة، وفي لغته أخرى، وفي إملائه ثالثة .. وهكذا، وكلّ هذا بحجة تصويبه وخدمته والسهر عليه.
وكم من خطط رسائل أعدت إعداداً سريعاً، أو استُجْديت موضوعاتها استجداء، أو سُرقت سرقة، وما عرف الطالب أن إعداد خطة الرسالة يشبه إعداد مخطط البناء، وأن اختيار البحث يحتاج إلى استقصاء يعدل الاستقصاء اللازم لاختيار شريكة حياته، وأن موضوعه يصبح جنيناً يتخلق داخله، وأن انتماءه إليه يشبه انتماء البنوة إلى الأبوة، مع ما يرافق ذلك من حب، وأنس، ورغبة في التضحية، إن موضوعك هو "أنت"، مُجسّداً في عالم يتهيأ للبقاء حين تندثر الأجساد وتزول.
وهنا تظهر أهمية الأستاذ الجامعي، إن شرط الأستاذ الجامعي، شرط عسير، حتى يستحق هذا اللقبو؛ فالأستاذ هو الذي يملك الرؤية التي يشكل بها مدرسة أو على الأقل التي ينتمي بها إلى مدرسة، ويكون قادراً على أن يُرَبّي فيها طلاب علم وبحث.، والمدرسة الفكرية، أو الأدبية "منهج"، أي قدرة على سلوك الطريق الذي يؤدي إلى "الحقيقة"، وقد تتعدد الأدوات اللازمة كاللغات والمختبرات فيحتاط لذلك، وقد تتعدد الطرق اللازمة للكشف عن الحقيقة، فثمة طريق مختصرة وأخرى طويلة، ولكل مزايا وعيوب، وقد يضيء الأستاذ سطحاً من أسطح الظاهرة - التي يمكن تعليمياً أن نشبهها بمكعب - فلا يلهيه فرحه بما استضاء له منه، عن التحَرُّّف لها لإضاءتها من جانب ثان وثالث... فإن أضاء الظاهرة من بواديها استدعاه جَذب العِشق ليراها من دواخلها، وهو في كل هذا يتعلم ويعلم، كيف يستخدم أدواته وإمكاناته، و كيف يتفادى الوهم، ويتقرب من الحقيقة، لا يثنيه عن ذلك مصلحة عُجْلى، ولا سِحر شُهرة، وضيق تعصّب.
التعليقات