حديثي اليوم عن بحر لا يحده أي عمق، عن هبة ربانية مباركة أنعم الله بها علينا، عن معشوقة عجزت أبيات الغزل أن توفيها جمالها، عن بنت عدنان أتحدث، لغة الضاد وفخر الأجداد اللغة العربية المباركة.
كيف لي أن أكتب عنها وقد سبقني كبار العلماء وجهابذة الكتّاب فسطروا جواهر من الكلمات عنها وعقائد من الماس حولها فلم يوفوها حقها، لكني سأحاول فقط أن أبوح ما في نفسي من خواطر وتأملات حول هذه اللغة السمحة المباركة.
حقيقة حاولت أن أتجنب قدر الإمكان التعريفات التقليدية المعروفة .. اللغة العربية لغة سامية يتحدثها أكثر من 422 مليون لسان ..الخ، لكن أقول بأنها اللغة التي ضربت بجذورها في عمق التاريخ و تكيفت مع مختلف الأزمنة الأمكنة، فحافظت على مكانتها، بل وزادها ذلك انتشارا.
أما عن مهدها فيقول المؤلف الدكتور حنا فاخوري: ظهرت اللغة العربية في البلاد التي تمتد بين البحر الأحمر، والمحيط الهندي، وخليج فارس، وخط وهمي يتجه شرقا من رأس خليج العقبة حتى الفرات؛ وتسمى تلك البلاد شبه جزيرة العرب، كما تسمى الجزيرة العربية توسعا.
لغتنا العربية لغة مباركة
أعظم تشريف للغتنا العظيمة أن نزل بها القرآن الحكيم كتاب الله الكريم.
يقول سبحانه وتعالى :
‘نزل به الروح الأمين . على قلبك لتكون من المنذرين . بلسان عربي مبين‘ الشعراء
‘قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون‘ الزمر
‘كتابا فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون‘ فصلت
فإذا كان الأدب صورة للحياة كما ذكرنا في إحدى مواضيعنا فاللغة العربية هي منبع الحياة لأنها لغة الكتاب الذي يهدي النفوس التائهة ويشفي القلوب المريضة، فكان شرفا لنا أن أنعم الله علينا بهذا اللسان والذي يغبطنا عليه الأجانب.
اختصت اللغة العربية بحرف الضاد والذي يعتبر صعب النطق لغير العرب، فكان لسان العرب الأميز والأجود في نطق هذا الحرف، بل هناك من العرب أنفسهم من يتعسر عليه التفريق بين الضاد والظاء، وفي ذلك قال الحريري:
أيها السائل عن الظاء والضاد لكيلا تُضلّه الألفـاظ
إن حفظت الظاءات يغنيك فاسمعها استمـاع امرئ له استيقاظ
هي ظمياء والمظالم والإظلام والظلم واللحاظ
قال المستشرق الفرنسي رينان:
”من أغرب المُدهِشَات أن تنبت تلك اللغة القومية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمة من الرّحل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها، وحسب نظام مبانيها، ولم يُعْرَف لها في كل أطوار حياتها طفولة ولا شيخوخة ولا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تُبَارى، ولا نعرف شبيهاً بهذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدرج وبقيت حافظة لكيانها من كل شائبة ”.
قالت المستشرقة الألمانية زيفر هونكه:
” كيف يستطيع الإنسان أن يُقاوم جمال هذه اللغة ومنطقها السليم، وسحرها الفريد؟ فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صَرْعَى سحر تلك اللغة …”
تتميز لغة الضاد بثراء رصيدها من الكلمات والصيغ، وهي لغة متميزة من الناحية الصوتية، فقد اشتملت على جميع الأصوات التي اشتملت عليها اللغات السامية الأخرى.
كما تتميز بالمرونة حيث تستوعب جميع الألفاظ المشتقة والمترادفة وتضع لكل مقام مقال لها.
فمثلا كلمة ‘علم‘ يمكن أن يكون مصدرا، وفعلا ماضيا، وفعلا مضارعا، وأمرا، أو تضاف إلى اسم بعدها لتدل على اسم لمادة خاصة مثل ‘علم الحساب‘ … ويشتق منها أوزان جديدة، وتتفرع عن هذه الأوزان كلمات ومعاني أخرى ونكون أمام بحر غير محدود من الدرر والخيرات، وهنا تتجلى عظمة لغة القرآن.
يقول المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون: ‘اللغة العربية هي التي أدخلت في الغرب طريقة التعبير العلمي، والعربية من أنقى اللغات، فقد تفردت في طرق التعبير العلمي والفني‘.
كانت لغة الضاد وستبقى اللغة الوحيدة القادرة على الاحاطة بكل الجوانب العلمية – الدينية – الفكرية – الاقتصادية، فإلى جانب أنها لغة القرآن الكريم الذي تكفل الجليل بحفظه، فلقد اعترفت الأمم المتحدة باللغة العربية كلغة رسمية سادسة في العالم في 18 ديسمبر 1973 وهو اليوم العالمي لهذه اللغة العريقة.
يقول الدكتور رشدي أحمد طعيمة: ‘إن العربية وعاء لحضارة واسعة النطاق، عميقة الأثر، ممتدة التاريخ … لقد نقلت إلى البشرية في فترة ما أسس الحضارة وعوامل التقدم في كل العلوم الطبيعية والرياضيات والطب والفلك والموسيقى‘.
لكن مع الأسف الشديد، واقع اليوم جعلنا نقف على الأطلال نبكي لغتنا، فعقلية الجيل السائدة تقول بوجوب اعتماد اللغات الأجنبية (كالانجليزية) فهي لغة العلم والتكنلوجيا والأبحاث – وهي بالفعل كذلك – في حين يعتبرون اللغة العربية شيئا عتيقا يصلح لقواعد النحو والصرف وأبيات الشعر فقط!
ولنا أن نعذرهم مادام الواقع العربي يعاني الأزمات تلو الأزمات في جميع الجوانب وأولها التعليم.
لست ضد تعلم اللغات الأجنبية فذلك سيزيدنا انفتاحا على باقي الأمم والحضارات، لكن على الأقل اعرف عظمة لغتك والعلماء العباقرة التي أنجبتهم ومنهم اقتبس علماء الغرب معرفتهم.
أما الطامة الكبرى والمفجعة فهي تلك التيارات التي تخرج لنا كل مرة تدعوا بتعميم اللهجات الدارجة وترسيخها في المقررات الدراسية والبرامج التوعوية، لكن تأبى هذه اللغة إلا أن تزهو بشموخها مادام هنالك جنود تحملوا عبء إيصالها، وسيعود بزوغ عصر هذه اللغة إن شاء الله طال الزمان أو قصر، فهي ليست حقبة وانتهى عصرها، بل هي روح تسري في القلوب والعقول.
يقول الدكتور عبد الصبور شاهين: ‘قد يكون من الطبيعي أن تجد العربية خارج حدودها أعداء يكيدون لها، لكن المفزع حقا أن يكون بعض هؤلاء الأعداء من بينها، عن قصد أو عن غير قصد، ولذلك فهي تقاتل في جهتين أقربهما أمرّهما وأعصاهما، لأنها تقاتل قطعا من نفسها (وظلم ذوي القربى أشد مرارة على النفس)‘.
أتذكر أثناء دراستي الثانوية حين كنت أتحدث في الفصل باللغة العربية فكان زملائي يضحكون علي بسخرية، فهم يعتبرونني أتلو طلاسم أو لغة من العهود الغابرة، في حين أن الأمر عادي جدا لو تحدث أحدهم بالفرنسية أو الانجليزية.
إذن فلغتنا تحتاج إلى أن نحبها أولا قبل كل شيء وبعدها يأتي تعليمها وممارستها، إنها مسؤوليتنا أن نعلم أبناءنا حب لغتهم.
اقرأ: علم النحو في اللغة العربية: هل هو كابوس حقا ؟!
إن تعليم اللغة العربية وتعلمها يتطلب معرفة بعلومها وبالتالي توفير كافة اللوازم والمتطلبات لايصال هذه العلوم للتلميذ بشكل حضاري ممتع تحببه إليها.
إنها اللغة الأم والبحر الذي يحوي كل شيء، والمرجع الأول لهذه العلوم هو القرآن الكريم الكامل القويم، وبفضل جهود علمائنا السابقين والراسخين بفضل الله في العلم جاءت علوم لغة الضاد مقسمة في قول الناظم:
صَرْفٌ بَيَانٌ مَعَانِي النَّحْوُ قَافِيَةٌ .. شِعْرٌ عَرُوضُ اشْتِقَاقُ الخَطُّ إِنْشَاءُ
مُحَاضَرَاتٌ وَثَانِي عَشْرِهَا لُغَةٌ .. تِلْكَ العُلُومُ لَهَا الآدَابُ أَسْمَاءُ
1 – علم اللغة وهو العلم الذي يختص بدراسة أسلوب اللغة عينها والاحاطة بجوانب مفرداتها وطرق بناءها، وتكوين الكلمة وشكلها، فيسهل فهمها سواء للناطقين بها أو الأجانب الذين يودون تعلمها.
2 – علم الصرف أو التصريف وهو العلم الذي يعنى بأحوال أبنية الكلمة وما يطرأ عليها من تغييرات في حروفها وحركاتها، وليس له علاقة ببناء الكلمة و إعرابها.
3 – علم النحو بعكس علم الصرف وهو يعنى بحال الكلمة بناء وإعرابا.
4 – علم المعاني وهو العلم الذي يهتم بدراسة اللفظ ومناسبته للمعنى وهو فرع من فروع علم البلاغة.
5 – علم البيان (فرع من فروع علم البلاغة) وهو العلم الذي يكشف معاني الكلمة بأكثر من وجه وطريقة وينقسم إلى مجاز وكناية وتشبيه واستعارة.
6 – علم البديع (فرع من فروع علم البلاغة) وهو العلم الذي يعنى بجمالية الكلمة وتحسينها معنى ولفظا.
7 – علم العروض وهو العلم الذي يختص بدراسة أوزان الشعر وتقسيمها.
8 – علم القوافي (متصل بعلم العروض) لكنه يختص بدراسة أحوال أواخر الأبيات الشعرية وتدعى قافية.
9 – علم قواعد الكتابة أو الخط وهو العلم الذي يختص بأسس الكتابة من عناية بالحروف وطريقة رسمها وتنظيمها ومنه الإملاء.
10 – علم القراءة وهو العلم الذي يعنى بدراسة القرآن من ناحية تلاوته وضبط آياته نطقا وشكلا.
11 – علم الإنشاء وهو من فنون الأدب العربي ويعنى بفن النثر كالرسائل والخطب.
12 – علم المحاضرات وهو العلم الذي يختص بايصال الكلام للناس في المجالس ويدخل فيه السيرة والتراجم والتاريخ.
إن تعلم اللغة العربية هو واجب ومسؤولية منوطة بكل واحد منا، فكيف لنا أن نفهم كلام الله دون إلمام بقواعد اللغة العربية؟ وهل يعقل أن نستمتع بجواهر الأدب العربي، وفنون الشعر العربي، ونحن جاهلين بلغتنا؟!
ونختم بقول الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي: ‘وكما أن الذي أنزل عليه القرآن نبي العرب، فالقرآن نبي العربية، بحيث لا تجد من فضل لرسول الله على الأنام، إلا وجدت فضلا في معناه لكلام الله على الكلام‘.