لقد أبدع الأوائل في تعليم اللغة العربية وتبسيطها للناشئة وطلاب العلم من خلال طريقة المتون التي تقعد قواعدها وتجمع أصولها وفروعها بعبارات دقيقة ومنتقاة، كالآجرومية وقطر الندى وسبائك الذهب في كلام العرب أو المنظومات والأراجيز كألفية ابن مالك وابن معطي وغيرهما وذلك لضبط مسائلها وقواعدها وتيسير تعلمها وحفظها حتى غدت فاكهة الحديث ولغة الإبداع و العلم والإمتاع الخطابي (مثل: مقامات الحريري وبديع الزمان الهمذاني والمعلقات العشر) ثم جاء ابن سينا وألف أرجوزته (السينائية) في الطب بلسان عربي فصيح فركب المصطلحات الطبية والعلمية باللغة العربية وبعده توالى العلماء تترى في شتى الميادين يخدمون لغة القرآن بإنتاجاتهم العلمية الراقية في علوم الصناعة والطبيعة والإنسان ( مقدمة ابن خلدون رباعيات الخيام، كتاب الأنيق في صناعة المنجنيق للعالم المسلم عبقري الأندلس: أرنبغا الزردكاش…الخ)
وبعد الهجمة الشرسة التي طالت مكتسباتنا الحضارية إثر الحملات الاستدمارية انحسر واقع اللغة العربية تعلما وتعليما وتأليفا وإبداعا فقدمت في صورة منفرة - وللأسف - حاشا بعض المحاولات القليلة لإعادة بعث بريق اللغة العربية وروعتها وهنا أتذكر بالذات ذلك البرنامج التعليمي الرائع الذي كنا نشاهده في طفولتنا وهو (المناهل) الذي جسد حالة إبداعية عصرية فريدة من نوعها في تقريب مضامين اللغة ودلالاتها إلى أذهان المتعلمين وما عدا ذلك بقيت اللغة العربية رهينة ممارسات تعليمية شاذة وغير بيداغوجية ولا تربوية من قبل بعض المعلمين الذين لم يكلفوا أنفسهم عناء تطوير خبراتهم ومهاراتهم لتعليم هذه اللغة بطريقة محفزة لا منفرة ومرغبة لا مرهبة، فلا يخفى على أحد أن بعض معلمي العربية اليوم لا يحسنون حتى التحدث بها فضلا عن التفنن فيها وفي تعليميتها، بل لازالت - إلى اليوم - تلكم الصورة القاتمة عن معلم العربية بأنه ذلك الشديد الغليظ صعب المراس والمعاملة بخلاف أساتذة اللغات الأخرى الذين يمزجون بين طريقة التدريس باللعب والأمثال والممازحة والملاطفة، مع أن هذه القاعدة غير مطردة إلا أنها أضرت بواقع اللغة العربية في كثير من البيئات التعليمية فوجد أعداؤها ملمزا ومدخلا للتضييق عليها بدعاوى لا تقوم بحجة.
إن كل الذين يعيبون اللغة العربية من المنسلخين أو المنبهرين بلغة غيرهم أو المنهارين فكريا إنما يعيبونها لعجز دفين في شخصياتهم وقصور متمكن في دواخلهم، لأن اللغة العربية الحقيقية – لا كما يظنها الأغلب أو يتداولها الناس اليوم – لهي ذات مستوى عال جدا، وتحمل بين طياتها جهازا جد متطور من البلاغة والنحو والصرف والأسلوبية والدلالة، قادر على الإبداع والابهار والازدهار لو وجد من يرتقي إلى مستواه ويبلغ مداه، ولا أدل على ذلك من اعتراف علماء اللغة الغربيين كنعوم تشومسكي وسوسير وغيرهم من أفذاذ اللسان والبيان لفضل اللغة العربية وميزتها وقدرتها الدلالية الفائقة، ولهذا لم يرتض ربنا سبحانه أن يعبر عن إرادته المطلقة وعن حكمته البالغة وشريعته الخاتمة ومراميه البليغة إلا باللغة العربية لأنها هي وحدها من يستوعب دلائل الخطاب الإلهي المحكم والخاتم بمقتضى شمولية الشريعة الإسلامية ورسالتها العالمية ” قرآنا عربيا غير ذي عوج” ” إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تتقون” فإنزال القرآن عربيا غرض مقصود وهدف منشود من الحكيم المحمود … فالواجب علينا أن نرتقي في علمنا ومقاصدنا ومداركنا وتفكيرنا لكي نصل إلى مستوى لغة القرآن لا أن نتنقص لغة لم نفقه معشارها ولم ندرك كنهها وسرها قال بن مالك صاحب الالفية:
وأستعين الله في ألفية … مقاصد النحو بها محوية
تقرب الأقصى بلفظ موجز … وتبسط الوعد بفضل منجز.
من المؤسف كثيرا أن تقرأ عن بعض من ينتسب للفكر والعلم قولهم ” اللغة العربية لغة ميتة والانجليزية هي لغة العلم ” ، فأبسط الدارسين لعلم اللغات واللسانيات والأسلوبيات ولقواعد اللغة العربية وفقهها يقف على الحقيقة الراسخة وهي أنها من أغنى اللغات الحية وأعمقها دلالة، ولكن يحق لنا أن نتساءل: لماذا لا تواكب هذه اللغة روح العصر وتصبح لغة عالمية؟ هذا السؤال يدفعنا إلى تساؤل آخر وهو: هل الإشكال في اللغة أو فيمن يستعملها؟ وهل تنهض اللغة بنفسها أو بمستعملها؟ وكيف تتطور اللغة وتفرض حضورها على العالمين؟ اللغة العربية ليست ميتة بل الإنسان العربي والفكر العربي هو الميت في الوقت المعاصر، هذا الإنسان الذي قصرت همته عن بلوغ مراتب الإبداع والإنتاج وتطوير سبل المعاش ” فالمبدع له الحق الحصري في نحت المسميات المناسبة بلغته على ما أبدعه وأنتجه ”، كما أن اللغة تفرض حضورها بقوة على العالم بما يقدمه أهلها للإنسانية من أدب رفيع وصناعة نافعة واختراق لكافة العلوم والفنون وهذا ما كان للأمريكان والبريطانيين فانتشرت لغتهم وصار لزاما على بقية الشعوب أن تتعلمها لتحسن تشغيل الآلات والبرامج التي أبدعتها أنامل تلك الأمم فلا تظلموا العربية بجهل وقد وسعت كتاب الله لفظا وغاية فكيف تضيق اليوم عن تأليف أسماء لمخترعات؟؟ ولكن اللوم يكون على الأيادي التي لا تصنع والعقول التي لا تفكر والأرجل التي لا تضرب في الأرض كادّة مجتهدة فالميت الحقيقي هو الإنسان العربي وليست العربية فبالأمس كانت الفرنسية حاضرة واليوم تكتسحها الإنجليزية وغدا قد تكون الصينية أو الألمانية فهل نقول بعد ذلك: أن الانجليزية هي لغة ميتة؟؟ وفي الماضي القريب كانت اللغة العبرية معدودة من موات اللغات ولكن لما وجدت من يحييها ويغار عليها ويوظفها خرجت من قبرها واستعادت حياتها ليس بنفسها ولكن بالإنسان الذي طورها وفرضها بالفكر والعلم والصناعة، فاللغة وسيلة والتطور والإبداع والقوة الاقتصادية والتكنولوجية غاية والوسائل لها حكم الغايات.
فالانتصار للغة العربية لا يقتصر فقط على مقال يكتب أو جمعية تنشأ أو قرار يصدر أو شعار يرفع بل لا بد من التفكير الجاد والواعي بضرورة ترقية هذه اللغة إلى مصاف العالمية لتصبح لغة الاقتصاد والميكانيك والطب والصيدلة ..الخ، وبإيجاد المنهجية السليمة لتدريسها وفق مقتضيات العصر وبأسلوب علمي إضافة إلى الأسلوب الشعري والنثري معا وجعلها لغة التدريس بصفة عملية وتحفيز الطلاب على أن يتداولوها في إلقائهم لبحوثهم وفي مشاركاتهم.
نعم… اللغة هي وعاء الفكر وقد استقر لدى علماء اللسانيات أن الإنسان يفكر باللغة التي يتقنها ويتأثر فكره وسلوكه وخلقه بأسلوبها وآدابها وجمالياتها فاللغة ليست مجرد أداة تواصلية فحسب.
فلن تصلح اللغة العربية إلا إذا استقام لسان أبنائها وسبيل استقامة اللسان يكون بالمدارسة والممارسة والمعاهدة .
كلامنا لفظ مفيد كاستقم………………….. اسم وفعل ثم حرف الكلم - ابن مالك -
رحم الله من بنوا بالعربية علوما وفهوما وأسسوا على صخرتها حضارة وفنونا فأضحوا في البرية أنجما وبدورا.