اللغة العربية أداة تفكير وورشة إنتاج الرؤى الحضارية اللامتناهية فهل من مفكر؟

يسلط المقال الضوء على اللغة العربية بوصفها أداة تفكير، ثم يعرج على علاقة اللغة بالفكر، وعلاقة اللغة بالثقافة، وسعي أعداء الأمة إلى محاربة اللغة العربية، وطرق المحافظة عليها.

المؤلف: زكرياء خالد المصدر: منتدى مجمع اللغة العربية التاريخ : 14/01/2020 المشاهدات : 418

المحتوى

ليست اللغةُ مجرد أداة تعبير عن فكر جاهز، إنَّها على خلافِ ذلك أداةُ تفكير، وتأسيس معرفيٍّ، وكشف وخلق وإبداع، إنَّها - بإيجاز مركَّز - "بيت الوجود"؛ كما يقول الفيلسوف الألماني "Martin Heidegger".

فاللغةُ بيتُ الإنسانِ الذي إليه يَفرُّ هروبًا من صقيع الواقع، وفيه يعيد بناء الوجود بناءً ذاتيًّا مغايرًا للواقعِ الموبوء، عن طريق عملية هدمِ علاقات الواقع وتفكيكه؛ بحثًا عن الأسرار الأنطولوجية المخبوءة في أعماق العالم، وفضحًا للتابوهاتِ التي تقفُ متاريسَ في درب نهضتنا، وتفتيشًا عن ملامحِ الجمال التي غيَّبتها الأشواكُ، وتنقيبًا عن سمات الإنسانِ الطفوليَّةِ الضَّائعةِ وسطَ الزحام.

اللغةُ أداة سؤال، إنَّها ورشة إنتاج التساؤلات الأنطولوجية اللامتناهيةِ التي في دواخلها تتوالدُ عدةُ عوالمَ إنسانيةٍ لا محدودة، تعبِّر عن الإبداعِ الإنساني الخلَّاق الذي يتجاوز سطحية الواقع، وجدران الذاكرة، وضحالة الجزئي، وأكاذيب التاريخ، ويحطمُ أغلال الواقع، ليسافر في عوالم الرؤى اللامتناهية، ويَمتاح من الفيوضات اللامحدودة، ويتنسَّك في أعماقِ محراب الوجودِ؛ بحثًا عن النفحاتِ الربَّانيَّة، والدفائنِ الإلهيةِ المتشظيَّة المبثوثة في آفاق هذا العالمِ الرحب الذي لا تقف منهُ اللغةُ الخلَّاقةُ موقفَ وصفٍ سطحي ومحاكاة سلبية، بل تقفُ منه موقفَ تساؤل لا متوقف، وبحث مستمر، نتاجهُ بناء عوالم إنسانية خاصة لا متناهية، تقف من العالم المشترك موقف الحوار الاختلافي التعايشي.

ومن هنا، فإذا أردنا تعريف الإنسان، قلنا: إنَّه كائن يفكرُ بواسطة اللغةِ التي لا تنفصلُ عنِ الفكرِ، إنَّها الفكرُ ذاته، وهذا ما دفع الفيلسوف اليونانيَّ " أفلاطون " (PLATON) إلى القول: "إنَّ الصورة التي أُكونها في نفسي عن الروح التي تفكر، ليست سوى صورة الروح، وهي تسأل نفسها وتجيب". وهي الفكرة نفسها التي يؤكدها الفيلسوف الألماني "فريديريك هيجل" (FRIEDRICK HEGEL) في قوله الآتي: "إنَّنا نفكر داخل الكلمات"، وأقوال المفكرين في هذه القضية كثيرة، وهي كلها تحاول الانتقال من الفهم السطحي للعلاقة الظاهرية بين اللغة والفكر، إلى تقديم تصوُّر عميق مُفاده أنَّنا لا يمكن في الواقع أن نفصل بين اللغةِ والفكر؛ ذلك أنَّ التفكير لغة صامتة، واللغة تفكير ناطق.

إنَّ طرْحَنا لقضيةِ علاقةِ اللغة بالفكرِ لا يعني أنَّ هدفنا هو الحديثُ عن هذه العلاقة فقط، بقدرِ ما يعني أنَّنا نحاولُ تسليط الضوء على قيمة اللغة العربية في بناء الإنسان المثقف المفكِّر الواعي، الذي يعيد بناء وجوده الخلَّاق داخل مملكة اللغة.

ومن المفكرين الجزائريين - الذين أدركوا أهمية اللغة في بقاء واستمرار الإنسان العربي - "محمد بن عبدالكريم الجزائري"، الذي يظهرُ تأكيده هذه الأهميةَ من خلال عنوان كتابهِ "لغة كلِّ أمة روح ثقافتها".

إنَّ القارئ لعنوان هذا الكتاب يدركُ أنَّ الثقافة جسد، واللغة روحها الحية التي لولاها لصار هذا الجسدُ جثة هامدة لا قيمة دلالية لها، ويشرحُ لنا صاحب الكتابِ هذه القضية أكثر، فيقول: "والنتيجةُ أنَّ أيَّ شعب أهمل لغتَه واستعار لغة شعبٍ آخر، فسُلوكُه وتفكيرهُ - هما الآخران - مستعاران بالدرجة الأولى، ومن كان كذلك فلا شخصيةَ له، ومن لا شخصيةَ له فلا ثقافة له، ومَن لا ثقافة له فحظُّه في الحياة تقليدٌ أعمى، أعاذنا الله منه! ولسنا بمخطئين عندما نُصَرِّحُ بأنَّ علاقة الثقافة باللغةِ بمنزلة علاقة الروح بالجسد"[1].

إنَّ هذا القول المهم يكشفُ عن نقطة رئيسة، فحواها أنَّ العلاقة بين اللغةِ والثقافة ليست علاقة "وسيلة"، حسب رأي بعض المتطفلين على اللغةِ الحاقدين على لغة القرآن الكريم، الجاهلين بأسرارها جهلًا وتجاهلًا دفَعهم إلى التساهلِ في استبدالِ اللغة الإفرنجيَّةِ باللغة العربية؛ "وحجتهم في ذلك أنَّ الحياة العصريَّة تقتضي ما زعموه، وقد غاب عنهم أنَّ الحياة على وجهِ العمومِ ما هي سوى سلوك وتفكير، وأنَّ سلوكَ الشعوب وتفكيرهم محدودان بلغاتهم، ومرهونان في تعابيرهم"[2].

إنَّ العلامة الجزائريَّ "محمد بن عبدالكريم الجزائري" في هذا القول يُحذِّرُ من تلكَ الدعوات الباطلة الحاقدة الجاهلة، التي تنظرُ إلى اللغة العربيةِ على أنَّها مجرد وسيلة فقط يمكن إحلال اللغات الإفرنجية محلها، بدعوى أنَّ اللغة العربية لغة قديمة غير قادرة على مواكبةِ تغيُّراتِ العصر التكنولوجي، جاهلين أو متجاهلين أنَّ اللغة العربية الفصحى قد اختارها اللهُ من بين جميع اللغاتِ؛ لتكون لسان القرآن الكريم، لقُدرتها العجيبة على قول ما لا تستطيع باقي اللغات قولَه، أو الإحاطة بالأسرار الربانيَّةِ اللامتناهيةِ، وفي هذا المعنى يقول شاعر النيل "حافظ إبراهيم":

وَسِعْتُ كِتَابَ اللهِ لفْظًا وغايةً  ♦♦♦ ومَا ضِقتُ عنْ آيٍ بهِ وَعِظاتِ

فكيْفَ أَضيقُ اليومَ عنْ وصْفِ آلةٍ ♦♦♦ وتنْسيقِ أسماءٍ لمُخترعاتِ 

وما يَزيدُ هذهِ اللغةَ هيبةً قدرتها على الثباتِ في وجهِ الهجمات والحملاتِ التغريبية التي كانت ولا تزال تَهدُفُ إلى استئصالِ هذه اللغة العربيةِ من جذورها؛ لأنها تعي أنَّ اللغة العربيَّة هي سرُّ عظمةِ الحضارة العربيةِ الإسلاميَّةِ؛ لأنَّها لغةُ القرآن الكريم الذي يختزنُ في أعماقِ أسرارهِ أسئلةَ الحضارة الإنسانية في ديناميتها وإبداعيتها، كما أنَّها لغة باقي المدونات التراثية العظيمة بدفائنها الخلَّاقة.

يقولُ شاعرُ النيل "حافظ إبراهيم" على لسان اللغة العربية:

أنا البحرُ في أحشائهِ الدرُّ كامنٌ ♦♦♦ فهلْ سألوا الغَوَّاصَ عنْ صَدَفاتي

هذه هي لغتنا العربية الخالدة، بحرٌ في أعماقه دُرر من الأسرار الربَّانية اللامتناهية التي تحمل في أحشائِها الإنسانَ المهديَّ المنتظر، الذي يعيد تشييد الواقع العربي المتآكل بزُبُرِ الرُّؤى الإسلامية الخالدةِ التي لا تزال قادرةً على الإجابة عن تساؤلاتِ العصرِ.

ولمَّا أدركَ أعداءُ الأمة العربية الإسلاميَّةِ أنَّ اللغة العربيَّة هي ورشةُ إنتاج الرؤى الخلَّاقةِ التي تُخرِّجُ الإنسان المسلم المتحضِّر الواعي، الذي يعيدُ بناء واقعه الآسِن بلَبنات قرآنية - فإنَّهم سعوا بكل الطرق إلى تحطيمِ قواربِ الرحلة التي تُؤدي إلى أعماقِ اللغة العربية، وإلى الأسرار الربانية الخالدة.

وقد سعى أعداء الأمة العربية الإسلامية إلى محاربة اللغة العربيةِ، عن طريق عدةِ طرق خسيسة؛ من بينها: الدعوة إلى استخدام اللهجاتِ واللغات الهجينة والأجنبية، مكان اللغة العربية الفصحى في عملية التواصل بين الأفراد في التعليم والإدارة؛ بدعوى أنَّ اللغة العربية الفصحى صعبة، وغير عصرية، وهذا الفعل المدروس الذي يرمي اللغة العربية بالعقمِ، ويُشيعُ أنَّ اللغات الأجنبية حيَّة - إنَّما يَهدُفُ إلى زرع عدم ثقة العرب في قوة لغتهم، وهذا ما يُضعف صفَّهم المتَّحد لغاية أَسمى، وهي نُصرة لغة القرآن الكريم، ويؤدي إلى إطفاء جَذوةِ الأسرار الحضاريةِ اللامحدودة التي تبحث عن عقل واعٍ موسوعي منهجي ينفخ فيها؛ لتَضطرم وتُحرِّق الأشواك التي تقف في طريق نهضتنا، وتُطهِّر الخزعبِلات الغازية لعقولنا المخدَّرةِ التي ما زالت تطمئنُّ لأوهامها، وتخشى طرح الأسئلة الأنطولوجية الجديدة التي في بواطنها تتوالد العوالم الإنسانية اللامتناهية، الثائرةِ على عالمنا المشترك الموبوء!

ومن هذا الطرح نصل إلى نقطة رئيسة، فحواها أنَّ نهضتنا مقرونة بنهضة لغتنا العربية؛ ذلك أنَّ اللغة العربية هي جسر التواصل بيننا وبين تراثنا العربي العريق، الغني بأسراره الحضارية اللامتناهية، وعلى رأسه القرآنُ الكريمُ الذي هو جامع أسرار العلومِ والمعارفِ، وتحليلٌ شمولي للحياة صالحٌ لكل زمان ومكان، يشكِّلُ بمكنوناته اللامتناهية وقودَ حضارتنا التي لن تسير عجلتُها نحو الأمام إلا بنفحاتِ هذا النص الربانيِّ الخالد، وصدقَ شاعر النيل "حافظ إبراهيم" حينما قال:

أرى لرجالِ الغربِ عزًّا ومَنْعَةً ♦♦♦ وكمْ عَزَّ أقوامٌ بعزِّ لُغاتِ 

ولمَّا كانت عزة الأمَّةِ العربية الإسلاميةِ مقرونة بعزِّ لغتها، فإنَّ الوقت قدْ حانَ لنحيي سنَّة الأجداد المتمثلة في إحياء اللغة العربية، وهذا من خلالِ تحويلها من وسيلة تعبير وتقديم الإجابات النهائيةِ المكرَّرة، ووصف العلاقات السطحية للوجودِ - إلى أداة تفكير وتساؤل، وتأسيس معرفي، ومِعول بحث في أعماق تراثنا العربي الإسلامي الغني بفيوضاته المثمرة.

وصدق شاعر النيل "حافظ إبراهيم" حين قال:

سَقَى اللهُ في بطنِ الجزيرةِ أَعظُمًا ♦♦♦  يَعِزُّ عليها أنْ تَلينَ قَنَاتِي

إلى مَعشرِ الكُتَّابِ والجمعُ حَافِلٌ ♦♦♦  بَسَطْتُ رجائي بعْدَ بَسطِ شكاتي

فإمَّا حياةٌ تبعثُ الميْتَ في البِلى ♦♦♦  وتُنبِتُ في تلكَ الرُّموس رُفاتي

     وإمَّا مماتٌ لا قيامةَ بعده ♦♦♦  مماتٌ لَعَمري لَم يُقَس بِمَماتِ


[1] محمد بن عبدالكريم الجزائري: لغة كلُّ أمة روحُ ثقافتها، (د ط)، دار الشهاب، باتنة، الجزائر، 1989، ص 9، 10. 

 [2] المرجع نفسه، ص 9.


التعليقات