إذا كانت العلة التي من أجلها وُجدت اللغة هي أداءَ الفهم المتبادل بين المتخاطبين بها، فإن هذه الغاية تلزمها أن تتموضع في جميع مسالكها لتحقيق تكامل الدلالة؛ ولهذا وجب أن يوضع لكل لفظ معنًى يعبر عنه؛ لتتألف لدينا مفردات تعتبر مرتكزات أو وحدات لغوية، تكون هي أساس نشأة اللغة، وهي أيضًا الأكثر تعبيرًا عن ملاءمة حاجات الإنسان، التي يحاول التعبير عنها للطرف الآخر،وبما أن عامل الزمن له أثره، والتطور الحضاري، ودخول المستجدات على عالمه يدعو الإنسان إلى البحث عن كيفيات في اللغة تُعِينه على التعبير عن هذه الأشياء بصورة كاملة وواضحة -احتاج إلى الزيادة على أصول مفردات النشأة اللغوية، فدأب على وضع وسائل لذلك، فكان الاشتقاق، والتركيب، والترادف، والمشترك وغيرها.
وهذه الوسائل كلُّها وُجدت من أجل هدف، وهو التوسيع في الأداء اللغوي؛ للوصول إلى تحقيق الغاية، وهي إيصال الدلالة، أو بعبارة أخرى: نظام خطاب، كما عبر عنه الأستاذ عابد الجابري حينما ذكر سلطة اللفظ كسلطة أولى تشكلت منها بنية العقل العربي؛ حيث قال: "اللفظ ككائن مستقل عن المعنى، مستعمل أو مهمَل، واللفظ كقالب منطقي يزيد معناه بالزيادة في حروفه، واللفظ كمشتق يتضمن معنى المقولة، واللفظ كمتصرف في المعنى وكمحدد لجهة نحوية / منطقية، واللفظ كنص يستثمر فيميز فيه بين منظوم ومفهوم، بين منطوق ومعقول، بين المعنى الظاهر والمعنى المراد، بين ما يؤوَّل وما لا يؤوَّل، واللفظ كنظم يدخل في مفاضلة مع المعنى...وبعبارة قصيرة: اللفظ كنظام خطاب يؤسس نظام العقل"[1].
ويعتبر الاشتقاق مِن أشرف العلوم العربية وأدقِّها، وعليها مدار علم التصريف في معرفة الأصلي والزائد، والأفعال والأسماء.
قال ابن فارس في معجمه:
شق: الشين والقاف أصل واحد صحيح، يدلُّ على انصداع في الشيء، ثم يحمل عليه، ويشتق منه على معنى الاستعارة، تقول: شققت الشيء أشقه شقًّا، إذا صدعته، وبيده شقوق، وبالدابَّة شقاق، والأصل واحد.
عرَّف الجرجاني الاشتقاق: "بأنه نزع لفظٍ مِن آخرَ، بشرط مناسبتهما معنًى وتركيبًا، ومغايرتهما في الصيغة"[2].
وعرَّفه الشوكاني بقوله: "أن تجد بين اللفظين تناسبًا في المعنى والتركيب، فترد أحدهما إلى الآخر"[3].
وأما في البحر المحيط فهو افتعال من الشق، بمعنى الاقتطاع، من انشقت العصا إذا تفرَّقت أجزاؤها؛ فإن معنى المادةَ الواحدة تتوزع على ألفاظٍ كثيرة مقتطعة منها، أو من شققت الثوب والخشبة، فيكون كل جزء منها مناسبًا لصاحبه في المادة والصورة، وهو يقع باعتبار حالين:
أحدهما: أن ترى لفظين اشتركَا في الحروف الأصلية والمعنى، وتريد أن تعلم أيهما أصل أو فرع.
والثانية: أن ترى لفظًا قضَتِ القواعد بأن مثله أصل، وتريد أن تبني منه لفظًا آخر[4].
والذي يظهر من هذه التعاريف ويجمع بينها أكثر هو شرط المناسبة في المادة والصورة.
ونقل السيوطي عن ابن دحية في التنوير، قوله: "الاشتقاق من أغربِ كلام العرب، وهو ثابت عن الله تعالى بنقل العدول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أوتي جوامعَ الكلم، وهي جمعُ المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة؛ فمِن ذلك قوله فيما صح عنه: ((يقول الله: أنا الرحمن؛ خلقتُ الرَّحِم - مصدر كالرحمة - وشققتُ لها من اسمي))، وغير ذلك من الأحاديث.
وقال في شرح التسهيل: الاشتقاق: أخذُ صيغة من أخرى، مع اتفاقهما معنًى، ومادة أصلية، وهيئة تركيب لها؛ ليدل بالثانية على معنى الأصل، بزيادة مفيدة، لأجلها اختلفا حروفًا أو هيئة؛ كضاربٍ مِن ضرب، وحَذِر مِن حذر"[5].
جاء في كتاب (الصاحبي): أن أهل اللغة أجمعوا - إلا من شذ عنهم - أن للغة العرب قياسًا، وأن العربَ تشتقُّ بعضَ الكلام من بعض.
وأن اسمَ الجِن مشتق من اسم الاجتنان، وأن الجيم والنون تدلان أبدًا على الستر، تقول العرب للدرع: جُنَّة، وأجنه الليل، وهذا جنين؛ أي: هو في بطن أمِّه، أو مقبور، وأن الإنسَ مِن الظهور، يقولون: آنست الشيء: أبصرته.
وعلى هذا سائرُ كلام العرب، علِم ذلك مَن علم، وجهِله من جهل، قلنا: وهذا أيضًا مبنيٌّ على ما تقدم مِن قولنا في التوفيق؛ فإن الذي وقفنا على أن الاجتنانَ التستُّرُ هو الذي وقفنا على أن الجن مشتق منه، وليس لنا اليوم أن نخترع، ولا أن نقول غير ما قالوه، ولا أن نقيس قياسًا لم يقيسوه؛ لأن في ذلك فسادَ اللغة، وبطلانَ حقائقها، ونكتة الباب أن اللغة لا تؤخذ قياسًا نَقِيسه الآن نحن"[6].
وكلام ابن فارس كان في باب القول على لغة العرب هل لها قياس؟ وهل يُشتَقُّ بعضُ الكلام مِن بعض؟
فإذًا قضية الاشتقاق مرتبطة بقضية أصل اللغة، وقضية أصل اللغة هي بدورها ستجرُّنا إلى تساؤلٍ عن مرجعية اللغة؛ هل عن رواية تواترية أم آحادية أم قياس؟
اتجاه التناسب الطبيعي، الذي يربط ظهورَ اللغة بالطبيعة، وهو ما ذكره ابن جني في كتابه الخصائص؛ حيث قال: "وذهَب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو مِن الأصوات المسموعة؛ كدويِّ الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيج الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي، ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد"[7].
إلا أن هذا الطرح رُفِض من طرف العلماء لأسباب كثيرة، وأهمها أنه لو كانت هذه العلاقة طبيعية لَمَا وجدنا الاختلاف بين اللغات، ولكانت لغة واحدة تعُمُّ الأرض.
أما الاتجاه الثاني، فيقول: إن اللغة توقيف من الله تعالى؛ إذ "إن الواضعَ هو الله تعالى، ووضعه متلقًّى لنا من جهة التوقيف الإلهي؛ إما بالوحيِ، أو بأن يخلق الله الأصوات والحروف، ويسمعها الواحد أو الجماعة، ويخلق له أو لهم العلم الضروريَّ بأنها قُصِدَت للدلالة على المعاني"[8].
والاتجاه الثالث هو اعتبار اللغة كلها اصطلاحًا، وهو الذي ذهبت إليه جماعةٌ مِن فقهاء الكلام.
إن هذا الاختلاف في أصل اللغة هو الذي أدى بهم إلى الاختلاف في القول بالاشتقاق؛ فالذين قالوا باصطلاحية اللغة قالوا بالقياس وبالاشتقاق، وأما الذين قالوا بالتوقيف، فقد رفَضوا إثبات اللغة بالقياس والاشتقاق.
فعلى العموم، الاشتقاقُ هو توليد الألفاظ بعضها من بعض، ولا يتسنَّى ذلك إلا من الألفاظ التي بينها أصل واحد ترجع وتتولد منه؛ فهو في الألفاظ أشبهُ ما يكون بالرابطة النسبية بين الناس.
وهو أيضًا عملية استخراج لفظ من لفظ، أو صيغة من أخرى، بحيث تظلُّ الفروعُ المولدة متصلة بالأصل.
معنى هذا: أن نأخذ كلمةً من أخرى مع تناسب بينهما في المعنى، وتغيير في اللفظ، يقدم لنا زيادة على المعنى الأصلي، وهذه الزيادة هي سبب الاشتقاق.
ويقول عبدالقادر المغربي: "هو نزع لفظ من آخر بشرط مناسبتهما معنًى وتركيبًا، وتغايرهما في الصيغة،أو يقال: هو تحويل الأصل الواحد إلى صِيَغ مختلفة؛ لتفيدَ ما لم يستفد بذلك الأصل: فمصدر (ضرب) يتحول إلى (ضرب)، فيُفيد حصول الحدَث في الزمن الماضي، وإلى (يضرب) فيُفيد حصوله في المستقبل، وهكذا"[9].
جاء في البحر المحيط: أن أقسامَه ثلاثة، وهي: "أصغر وأكبر وأوسط؛ فالأصغر ما كانت الحروف الأصلية فيه مستوية في التركيب؛ نحو: ضرب يضرب فهو ضارب ومضروب،والأكبر ما كانت الحروف فيه غيرَ مرتبة؛ كالتراكيب الستة في كل من جهة دلالتها على القوة، فترد مادة اللفظين فصاعدًا إلى معنًى واحد... وأما الأوسط: فهو أن تتفقَ أكثرُ حروف الكلمة؛ كفَلَق وفَلَح وفَلَد يدل على الشق"[10].
أما صبحي الصالح فيقول: "إنما ندرس الاشتقاق في ظل دلالته الوضعية على أنه توليد لبعض الألفاظ من بعض، والرجوع بها إلى أصل واحد يحدد مادتها، ويوحي بمعناها المشترك الأصيل، مثلما يوحي بمعناها الخاص الجديد،وهذه الوسيلة الرائعة في توليد الألفاظ وتجديد الدلالات نجدُها في أنواعِ الاشتقاق الثلاثة الشائعة: الأصغر، والكبير، والأكبر، وفي النوع الرابع الملحق بها، وهو النحتُ، الذي يؤثِرُ بعضُ المحدَثين أن يسميَه: (الاشتقاق الكُبَّار)"[11].
قسم العلماءُ الاشتقاقَ إلى أربعة أقسام، وهي:
وهو أكثرُ أنواع الاشتقاق ورودًا في اللغة العربية: "وطريق معرفته تقليب تعاريف الكلمة، حتى يرجع منها إلى صيغة هي أصل الصيغ، كلها دلالة اطراد، أو حروفًا غالبًا، كضرب؛ فإنه دالٌّ على مطلق الضرب فقط،أما ضارب، ومضروب، ويضرب، واضرب، فكلها أكثر دلالة، وأكثر حروفًا"[12].
فالاشتقاقُ الصغير هو انتزاع كلمة من كلمة أخرى مع تغيير في الصيغة، مع تشابهٍ بينهما في المعنى، والاتفاق في الحروف الأصلية، وفي ترتيبها،وهذا النوعُ مِن الاشتقاق هو الذي يتبادر إلى الذهن عند الإطلاق؛ "لأنه الأوسعُ دائرةً، والأكثر نتاجًا، وإلا فإن في لغة العرب وسائلَ أخرى لنموها وتكاثر كلماتها، هي مِن قَبيل الاشتقاق الصغير المذكور، إلا أنها تجري على نمط آخر، وتتحرك في دائرة أضيق، وأريد بها (القلب) و(الإبدال) و(النحت)"[13].
وأما ابن جني فقد قسمه إلى قسمين: "وذلك أن الاشتقاقَ عندي على ضربين: كبير وصغير؛ فالصغيرُ ما في أيدي الناس وكتبهم؛ كأن تأخُذَ أصلًا من الأصول فتقرأه فتجمع بين معانيه، وإن اختلفت صيغته ومبانيه"[14].
ولقد وقع خلاف في الاشتقاق الصغير؛ فطائفة من العلماء يقولون بأن بعض الكلم مشتق، وبعضه غير مشتق، مثل سيبويه والخليل والأصمعي... وقالت طائفة من المتأخرين اللغويين بأن كل الكلم مشتق، وطائفة أخرى بأن الكلم كله أصل[15].
والرأي الأول هو المرجَّح؛ لأنه لا يمكن أن يقال: هو أصل وفرع؛ لأن الشرط اتحاد المعنى والمادة وهيئة التركيب، مع أن كلًّا منهما حينئذ مفرع عن الآخر بذلك المعنى، ثم إن هناك تغييراتٍ بين الأصل المشتق منه والفرع، وجاء في المزهر أنها خمسة عشر:
1- زيادة حركة؛ كعلم وعلم.
2- زيادة مادة؛ كطالب وطلب.
3- زيادتهما؛ كضارب وضرب.
4- نقصان حركة؛ كالفرس من الفرس.
5- نقصان مادة؛ كثبت وثبات.
6- نقصانهما؛ كنزا ونزوان.
7- نقصان حركة وزيادة مادة؛ كغضبى وغضب.
8- نقصان مادة وزيادة حركة؛ كحرم وحرمان.
9- زيادتهما مع نقصانهما؛ كاستنوق من الناقة.
10- تغاير الحركتين؛ كبطر بطرا.
11- نقصان حركة وزيادة أخرى وحرف؛ كاضرب من الضرب.
12- نقصان مادة وزيادة أخرى؛ كراضع من الرضاعة.
13- نقص مادة وزيادة أخرى وحركة؛ كخاف من الخوف؛ لأن الفاء ساكنة في خوف؛ لعدم التركيب.
14- نقصان حركة وحرف وزيادة حركة فقط؛ كعد من الوعد.
15- نقصان حركة وحرف وزيادة حرف؛ كفخار من الفخار، نقصت ألف، وزادت ألف وفتحة[16].
فالاشتقاق الصغير أو العام - كما سماه عبدالواحد الوافي - هو ارتباط كل أصل ثلاثي في اللغة بمعنًى عامٍّ وُضِع له،وهذا المعنى يخرج إلى حيز الوجود في كل كلمة توجد فيها الأصوات الثلاثة مرتبة حسب ترتيبها في الأصل الذي أُخِذت منه.
وعلى هذه الرابطة يقوم أكبر قسم من اللغة، وهو ما يُطلِق عليه علماء الصرف اسم الاشتقاق على ناحية من نواحي هذه الرابطة، وهي المسمى بالمشتقات: (أفعال الماضي والمضارع والأمر، واسم الفاعل واسم المفعول، واسما الزمان والمكان، واسم الآلة).
وقد استعمَلَتِ العرب المصدر الصناعي بقلة، وأخذته من أسماء المعاني والأعيان؛ كالجاهلية والفروسية واللصوصية والألوهية، ورأى المجمع قياسية صنع هذا المصدر؛ لشدة الحاجة إليه في العلوم والفنون، فإذا أُريدَ صُنع مصدر من كلمة يزاد عليها ياء النسب والتاء، فيقال: الاشتراكية والجمالية والرمزية والحمضية والقلوية.
إنَّ ثبات حروف المادة الأصلية فيما اشتق منها ودلالة المشتقات على معنى المادة الأصلي مع زيادة فيه أفادته صيغتها بجعل ألفاظ اللغة مترابطة أشد الترابط، وعلى هذا الاشتقاق يقوم القسم الأعظم من متن اللغة العربية، وهو أكثر أقسام الاشتقاق دورانًا، وهو مما أجمع عليه اللغويون إلا من شذَّ منهم، وتغني المشتقات عن مفردات كثيرة جدًّا لا بد من وضعها لو لم يكن الاشتقاق، وهذا الترابط المحكم الذي يحفظه الاشتقاق بين ألفاظ العربية هو خَصيصة من خصائص هذه اللغة.
والاشتقاق هو السبيلُ إلى معرفة الأصلي من الزائد من الحروف؛ كاستطاع من ط و ع، ومعرفة أصول الألفاظ التي يطرأ التغيير على بعض حروفها؛ كالسماء من س م و، ويميَّز به الدخيل من العربي؛ كالسرادق والإستبرق والفردوس؛ فالدخيل لا مادة له في العربية، وهو أهم وسيلة من وسائل نمو اللغة وتوالد موادها وتكاثر كلماتها، وتوليد كلمات جديدة للدلالة على معانٍ مستحدَثة؛ كالسيارة والمطبعة والمذياع.
وقد اتخذ العلماءُ هذه الوسيلة لنقل العلوم ووضع المصطلحات، وللمَجمَع في موضوع الاشتقاق قرارات، منها إلى ما ذُكر: أنه رأى قياسية صيغ اسم الآلة: مِفْعل ومِفْعلة ومِفْعال، وصحة صوغ فَعَّالة اسمًا للآلة؛ نحو مِبْذر ومِجْرفة ومِحْراث وسيَّارة، ورأى إضافة ثلاث صيغ، وهي فِعال وفاعلة وفاعول، مثل إراث وساقية وساطور، ورأى قياسية صوغ فَعَّال للدلالة على الاحتراف أو ملازمة الشيء؛ "فإذا خِيف لَبْسٌ بين صانع الشيء ومُلازمه كانت صيغة فعَّال للصانع، وكان النسب بالياء لغيره"؛ مثل: زَجَّاج لصانع الزجاج، وزُجَاجي لبائعه، ورأى قياسية استفعل للطلب والصيرورة، واشتقاق فُعال وفَعَل للدلالة على الداء، سواء أورد له فعل أم لم يرد؛ مثل: السعال والزكام والبَرَص والصَمَم، وأنه يصاغ للدلالة على الحِرفة أو شبهها من الثلاثي مصدر على وزن فِعالة وغير ذلك؛ مثل التِّجارة والحِدادة والوِراقة.
هو أن يكون بين الكلمتين اتفاق في حروف المادة الأصلية من دون ترتيبها وتناسب في المعنى، وهو الذي سماه ابن جني (الأكبر):
وهو أن نأخذ أصلًا مِن الأصول الثلاثة فنعقدَ عليه وعلى تقاليبه الستة معنًى واحد، تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه، وذكر مثال ذلك: (ك. ل. م) (ك. م. ل) (م.ك. ل) (م. ل. ك) (ل. ك. م) (ل. م. ك).
وجميع هذه التراكيب تدل على القوة والشدة، وذكر محمد المغربي أن هناك مَن سماه بالقلب.
لكن هذا النوع من الاشتقاق ما كان لتعمم نتائجه وأحكامه على جميع المواد والأصول، "وقد بالغ بعضهم في هذا النوع من الاشتقاق، فزعَم أنه يطَّرِد في معظم المواد، والحق أنه لا يبدو في صورة واضحة إلا في طائفة يسيرة من المواد، ومحاولة تطبيقه في غيرها يقتضي كثيرًا من التكلُّف والتعسُّف أو الخروج باللفظ عن مدلوله الأصلي"[17].
ولقد وضَّح هذا الأمرَ الإمامُ السيوطي؛ حيث قال: "وهذا الاشتقاق ليس معتمدًا في اللغة، ولا يصح أن يستنبط به اشتقاقٌ في لغة العرب" [18].
هو أن يكون بين الكلمتين تناسبٌ في المعنى، واتفاق في بعض حروف المادة الأصلية وترتيبها، سواء أكانت الحروف المتغايرة متناسبةً في المخرج الصوتي أم لم تكن ؛مثل: صرير وصريف، وخرب وخرق، وهديل وهدير.
ويعرِّفه عبدالوافي: "أنه ارتباط بعض مجموعات ثلاثية من الأصوات ببعض المعاني ارتباطًا غير مقيد بنفس الأصوات، بل بنوعها العام وترتيبها فحسب، سواء أبقيت الأصوات ذاتها أم استبدل بها أو ببعضها أصوات أخرى متفقة معها في النوع، ويقصد بالاتفاق في النوع أن يتقاربَ الصوتان في المخرج، أو يتحدا في جميع الصفات، ما عدا الإطباق"[19]؛ مثل: التقارب في المخرج، تناوب الميم والنون في (امتقع لونه وانتقع)، واللام والنون في (أسود حالك وحانك)، والواو والميم في مثل: (أوشاج وأمشاج).
ويسمى هذا النوع من الاشتقاق بالإبدال، وابن جني أدخله تحت قانون سماه: (تعاقب الألفاظ؛ لتصاقب المعاني)؛ أي: إن تقارب الحروف في مكان صاحبه،وذكر مثال: (هزا وأزا) مِن قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ [مريم: 83]؛ أي: تُزعِجهم وتُقلقهم، فهذا معنى تهزهم هزًّا، والهمزة أخت الهاء؛ فتقارَب اللفظانِ لتقارب المعنيين، لكنهم خصوا هذا المعنى بالهَمزة؛ لأنها أقوى من الهاء، وأعظم في النفوس؛ لأنك قد تهزُّ ما لا بال له؛ كالجذع، وساق الشجرة"[20].
وهو معروفٌ عند اللغويين بالنحت، وهو أخذُ كلمة من بعض حروف كلمتين أو كلمات أو من جملة، مع تناسُبِ المنحوتة والمنحوت منها في اللفظ والمعنى، وقد استعملته العرب لاختصار حكاية المركَّبات، فقالوا: بَسْمَلَ وسَبْحَلَ وحَيْعَلَ: إذا قال: بسم الله، وسبحان الله، وحي على الفلاح،ومن المركَّب العَلَمُ المضاف، وهم إذا نسبوا إليه نسبوا إلى الأول، وربما اشتقوا النسبة منهما، فقالوا: عَبْشَميّ وعَبْقَسيّ ومَرْقَسيّ في النسبة إلى عبدشمس، وعبدالقيس، وامرئ القيس في كندة، وهو قليلُ الاستعمال في العربية.
وذهب ابنُ فارس (ت 395هـ) إلى أن أكثرَ الألفاظ الرباعية والخماسية منحوتة، وفيها الموضوع وَضْعًا، وعلى هذا المذهب جرى في كتابه مقاييس اللغة.
هذا القسم من أقسام الاشتقاق وسيلةٌ مِن وسائل توليد كلمات جديدة للدلالة على معانٍ مستحدَثة،وقد أجازه المَجمَع عندما تُلجِئ إليه الضرورةُ العلمية، فيقال: حَلْمَأ مِن حلَّ بالماء، وبرَّمائي من برّ وماء، وكهرضوئي من كهرباء وضوء، ومنه اختصار أسماء المؤسَّسات العلمية وغيرها.
يمكن القول: إن المصدر الصناعي (أو الاشتقاق الصناعي) هو الأيسر والأطوع للدلالة على كلِّ المعاني المستجدة، وذلك الزخم العلمي الواسع الذي هو في زيادة كل يوم، فهو قياسي وقابل للأوزان والصيغ، وأوسع مجالًا للتعبير عن الحقائقِ العلمية والتقنية في العصر الحديث.
فما علينا إلا أن نأتيَ بأي لفظ من أي نوع، فنختمه بياء مشددة وهاء تأنيث، بحيث يسهُلُ نطقه ويستساغ؛ إذ لا مفرَّ مِن قَبول ذلك إن لم يكن له بديل، مثل الإيديولوجية، والفيزيائية، والصيدلانية، والكيماوية، والأوتوقراطية، إلى غير ذلك من الكلمات، ولشدة الحاجة لهذا المصدر في التعبير عن كثير من الحقائق الفلسفية والفنون رأى مجمَع اللغة العربية أن يكون قياسيًّا، وأصدر قراره التالي: إذا أريد صُنْع مصدر من كلمة يزاد عليها ياء النسب والتاء[21].
والاشتقاق هو ما يميِّز اللغةَ العربية؛ إذ "اللغات ليست بمادتها وكلماتها، وإنما هي بأساليبها وتراكيبها، فهذه هي المزيَّة التي تميز لغة عن لغة، وبالمحافظة على أساليب اللغة وتراكيبها تحصُلُ المحافظة على نفس اللغة، أما الكلم والألفاظ فإنها تتغير وتتبدل وتتجدد من عصر إلى الآخر تبعًا لتجدُّد البيئات والمؤثرات؛ فقد تموت وتندثر كلمات مِن قديم اللغة، ويقوم مقامها كلماتٌ حديثة مِن لغة أخرى احتكت بها... فتتقمصَّها اللغة الأولى وتبقى على حالها، فلا يقولن قائل: إن تلك اللغةَ صارت بهذه الكلمات الجديدة الطارئة عليها لغة أخرى جديدة.
ليس له أن يقول ذلك؛ لأن الأسلوبَ الخاص بتلك اللغة ثابت باقٍ؛ فهو يطوِّرُ الكلمات الدخيلة ويمثلها إلى بنية لغته"[22].
وأختم بطرح لبعض اللغويين، ولعله هو المطلوب منا الآن، يقول فيه بأن الاشتقاق هو قوة لنمو اللغة وتكاثر كلمها، لكنه سماعي مقيد بأزمان خاصة وأشخاص معينين، وليس من مقدورنا أن نعمل تلك القوة الآن في اللغة، فنشتق من مصادرها، ونحوِّل موادها اشتقاقًا وتحويلًا لم يعرفهما أهل اللغة أنفسُهم،اللهم إلا إذا طرأ على عمراننا وعقولنا وعلومنا ما يفكُّها من قيودها القديمة، ويجاوز بها سننها المتبعة.