التعريب في العصرين الأموي والعباسي

يبحث المقال في التعريب في العصرين الأموي والعباسي، الدوافع الداعية لحركة التعريب، وأثر الثقافات الأجنبية ومدارسها في التعريب.

المؤلف: د. توفيق سلطان اليوزبكي المصدر: الألوكة التاريخ : 09/05/2023 المشاهدات : 381

المحتوى

لقد أثرت حركة الفتح الإسلامي للعراق وفارس والشام ومصر تأثيراً كبيراً في حياة المجتمع الإسلامي لأن التوسع الإسلامي بمظاهره العسكرية والبشرية والفكرية أحدث توسعاً ثقافياً وحركة علمية كبرى نابعة من الإسلام وهدفها الدعوة إلى العقيدة الإسلامية فاقبل سكان البلاد المفتوحة على تعلم العربية وآدابها وعلى دراسة المصادر الإسلامية القرآن، الحديث، الفقه، فبرز فيهم الكثير من العلماء الذين أصبح لهم أثر في الثقافة العربية ونشر الحركة الفكرية نلمح أسماء كثير منهم في كتب التاريخ والتراجم والطبقات[1]

كما أن ظهور الفرق الإسلامية ومذاهبها كان لها أثر أيضاً في توسع الثقافة في البلاد المفتوحة حيث التقت الثقافة العربية بالثقافات الفارسية واليونانية والهندية ولكل منها صفاتها وميزانها ثم لم تلبث أن اندمجت وانصهرت في بودقة عربية إسلامية مكونة الحضارة العربية الإسلامية.

(أثر الثقافات الأجنبية ومدارسها في التعريب):

لقد أقبل سكان البلاد المفتوحة على تعلم اللغة العربية ودراسة آدابها – كما أشرنا قبلاً – وأخذوا يصوغون أفكارهم وعلومهم وآدابهم بما ينسجم والدين الإسلامي والتقاليد العربية فأصبحت اللغة السياسية والثقافية السائدة هي العربية لذلك فإن الشعوب (غير العربية) فقدت ذاتيتها اللغوية[2] بمرور الزمن للتقرب من الفاتحين وقد أدى إنتشارها إلى شعور شعوب هذه البلدان بالإنسجام والتجانس رغم إختلاف قومياتهم وحتى أديانهم. فوحدت اللغة العربية إنتماءهم وشعورهم وأهدافهم وكان لها أثر في إقبال الكثير من غير المسلمين على الدخول في الإسلام[3]، ولم يكن إقبال الشعوب غير العربية على تعلم العربية وترك لغتها الأصلية بسبب الإكراه أو الإجبار وإنما كما يقول المستشرق بارتولد[4]: "إن غلبة الغربية كان بالإختيار لا بسلطان الحكومة وإن تسامح العرب أدى إلى إنتشار العربية فدرس حنين بن إسحق الخليل بن أحمد الفراهيدي وسيبويه حتى أصبح حجة في العربية"[5].

وبعد أن قطع الموالي وأهل الذمة مرحلة كبيرة في تعلم العربية وآدابها أخذوا ينقلون إليها علومهم فاستطاعوا بذلك إضافة علومهم وأفكارهم إلى ذخيرة العرب المسلمين فتكونت من مزيج تلك الحضارات حضارة مطبوعة بالطابع العربي والأسلوب الإسلامي وأخذت تنمو وتزدهر منذ العصور الإسلامية الأولى (الراشدي والأموي) وآتت ثمارها في العصر العباسي حيث أصبحت بغداد حاضرة العالم الإسلامي، يتهافت عليها رجال العلم والثقافة والأدب والإقتصاد والمال لما أصبحت تتمتع به من مركز سياسي وإقتصادي وثقافي فنبغت أعداد كبيرة من العلماء والفلاسفة والأدباء والشعراء ينحدرون من عناصر ذمية وغير عربية ومن أخصهم النصارى والفرس والصابئة وأهم ما برزوا فيه الترجمة من اليونانية والفارسية والهندية والسريانية وأقلهم تأثيراً في الحضارة وتأثراً بها اليهود، يقول المستشرق ديورانت[6]: "ولم يكن لليهود القابلية الفكرية والعلمية على الإبداع الفكري فحتى التصوف اليهودي تأثر بالزرادشتيه وبالأفلاطونيه الحديثة بإستبدال الفيض الإلهي بعملية الخلق وتأثروا بالكتب المسيحية والمتصوفة الهنود والمصريين".

ويؤكد ذلك ما جاء في دائرة المعارف اليهودية[7]: أن الفلسفة العبرية جاءت عن طريق كتبهم المقدسة وعن طريق تأثرهم بالفلاسفة العرب.

وقد استفاد اليهود من العلوم العربية التي كانت سائدة في البلاد الإسلامية فترجموا بعضاً من المؤلفات العربية إلى العبرية واتقن بعضهم اللغة العربية وآدابها واهتموا بقواعد النحو ومن أولئك مروان بن موسى اليهودي البصري الذي اشتغل بالأدب وضبط النحو ولكنه لم يؤلف فيه[8].

ويبدو أن بروز هؤلاء اليهود في بعض الميادين العلمية يعود إلى إتصالهم بالحضارة العربية الإسلامية فاستقوا من مناهلها علومهم المختلفة.

أما النصارى في العراق فقد نعموا بعد الفتح الإسلامي بالحرية الدينية ولما كان أغلبهم عرباً فقد إلتفوا حول المسلمين للروابط القومية واللغوية التي تربطهم بإخوانهم العرب فأقبلوا على العناية باللغة العربية وآدابها فأخذوا ينقلون من السريانية إلى العربية لأن اللغة العربية أوسع من السريانية بدليل أن فيها أسماء كثيرة لم تكن موجودة عند السريانيين ولا عند غيرهم بخلاف إسم واحد فقط[9].

وأن قبائل الغساسنة في الشام منذ خضوعهم لكنيسة رومة وهم يستخدمون اللغة العربية في طقوسهم الدينية[10].

وقد برز الصابئة بالفلك والتنجيم واعتبروه عنصراً مهماً من العناصر التي يعتمد عليها دينهم ومستقبلهم فهم يعتقدون أن كل كوكب يحكم في يوم من الأيام ويتحكم ملائكة معينون بالأيام ومن هنا تكون لهم صفات فلكية[11].

ويعزون إهتمام الصابئة بدراسة الفلك والتنجيم إلى إعتقادهم التنبوءات وبأثر النجوم على مستقبل الإنسان أيضاً وقد عملوا الطلسمات والسحر والكهانه والتنجيم والتقويم والخواتيم[12].

ولما اتصل الصابئة بالخلافة العباسية صار لهم شأن كبير في نقل هذه العلوم إلى العربية ولعل إزدهار الحضارة وتطور العلوم في العصرين الأموي والعباسي يعود إلى رغبة العرب المسلمين في الإطلاع على ما عند الأمم الأخرى من علوم ومعارف حتى قال المستشرق سيديو[13] عنهم: "كان العرب وحدهم حاملين لواء الحضارة في القرون الوسطى وقد حرروا بربرية أوربا وسار العرب إلى منافع فلسفة اليونان ولم يقفوا عند حد ما اكتسبوه من كنوز المعرفة بل وسعوه وفتحوا أبواباً جديدة في مختلف العلوم وإذا ما بحثنا في الوجه الذي ايقظ الحضارة في المشرق وجدنا حب العرب للعلم وشوقهم إلى تعجيل رقيه بأنفسهم، ولعل تشوق العرب للإطلاع على علوم وثقافات الأمم الأخرى وإهتمامهم البالغ بالعلم دفعهم إلى الإبقاء على المؤسسات العلمية التي كانت لأهل الذمة في البلاد المفتوحة".

ولعل ما ذكره ديورانت[14] يؤيد ذلك: "كان بنو أمية حكماء إذ تركوا المدارس الكبرى المسيحية أو الصابئية أو الفارسية قائمة خاصة في حران ونصيبين وجنديسابور وغيرها ولم يمسوها بأذى وقد حفظت هذه المدارس أمهات الكتب الفلسفية والعلمية معظمها ترجمها إلى العربية على أيدي النساطرة المسيحيين وقد بقيت هذه المدارس تؤدي عملها في العصور الإسلامية وزاد إتصالها بالمسلمين في العصر العباسي".

ولابد من الإشارة إلى دور هذه المدارس في نشر الثقافة.

* فمدرسة حران:

حران: مدينة تقع في الجزيرة شمال العراق بين الرها ورأس العين وهي مدينة قديمة عاصرت الرومان واليونان والنصرانية والإسلام سكانها من العرب والسريان والأرمن والمقدونيين وقد تأثرت حران بالثقافة المقدونية لدرجة أن الآلهة المعبودة في حران كانت أسماء بعضها يونانية[15]، وأصبحت حران منبعاً من منابع الثقافة اليونانية في العهد الإسلامي واتصلت مدرستهم بالخلفاء العباسيين وكان لها شأن كبير في نشر الثقافة اليونانية وفي ترجمة كثير من الكتب عن اليونانية[16].

وقد برز نخبة من أساتذتها وخريجيها لعبوا دوراً كبيراً في تعريب علوم اليونان في الفلك والرياضيات والطب منهم أبو عبدالله البتاني وهو أحد المشهورين برصد الكواكب والمتقدمين في علم الهندسة وهيئة الأفلاك وحساب النجوم وله كرب في الزيج والبروج وغيرها[17]، ويعتبر ثابت بن قرة (ت281هـ) أعظم من عرف في مدرسة حران كان يجيد اليونانية والسريانية والعبرية ترجم في المنطق والرياضيات والتنجيم والطب ونقح كتاب إقليدس الذي عربه حنين بن إسحق رحل إلى بغداد وأقام فيها ومن أولاده وأحفاده إبراهيم بن ثابت وأبو الحسن ثابت وإسحق أبو الفرج وكل هؤلاء نبغوا في الرياضيات والفلك[18]، واشتهر ابنه سنان بالطب وكان عالماً بالظواهر الجوية[19]. وكان حفيده بن سنان عالماً بالحكمة والهندسة وله ثلاثة كتب في علم النجوم وله مقالة فيها إحدى وأربعون مسألة هندسية[20]، واشتهر هلال بن إبراهيم بالطب كما اشتهر إبراهيم بن هلال بالأدب وقد رثاه الشريف الرضي[21]. لمنزلته في الأدب.

* أما مدرسة نصيبين:

نصيبين: مدينة تقع بين أعالي بلاد ما بين النهرين ودمشق حصنها الرومان تحصيناً قوياً وأصبحت مركز كرسي الأسقفية لوجود الأنصاري فيها وأسس مطران نصيبين مدرسة تحاكي مدرسة الإسكندرية في الفلسفة وكانت الغاية منها نشر اللاهوت الإغريقي بين المسيحيين الذين يتكلمون السريانية[22]، ومزج النصرانية بالأفلاطونية وأغلقت مدرسة نصيبين فانتقلت إلى الرها، وهكذا إنتقل فكرة مزج النصرانية بالفلسفة في أنحاء الشرق[23]، وساعد بذلك على نشر كتب الفلسفة اليونانية التي ترجمها النصارى النساطرة.

* وأما مدرسة جنديسابور:

جنديسابور: مدينة تقع في خوزستان أسسها سابور الأول وإليه تنسب وأسكنها الأسرى الذين أسرهم من جيش الروم وخاصة الذين كانوا على جانب كبير من الثقافة والخبرة الفنية وكان يؤمل استخدامهم مهندسين ومعماريين وأطباء وسمح لهم باستعمال لغتهم وإتباع ديانتهم كما سمح لهم ببناء الكنائس فتمتعوا بالحرية أكثر مما كان يسمح لهم تحت حكم الإمبراطورية الرومانية[24] وأسس فيها كسرى انوشروان مدرسة للطب كما أنشأ فيها بيمارستان وأول من علم بها الطب من اليونان والهنود فالتقت في هذه المدرسة الثقافة اليونانية والهندية والفارسية[25] وقد واصلت هذه المدرسة نشاطها العلمي بعد الفتح الإسلامي وزاد إتصالها بالمسلمين في العصر العباسي واشتهر من أساتذتها وطلابها في العصر العباسي جرجيس بن بختيشوع (ت771م) وهو من أطباء وأقدم ممثل لطبقة الأطباء الذائعي الشهرة من أسرته ومنهم حفيده جبريل بن بختيشوع (ت800م) ويحيى بن البطريق الذي اختصه المنصور للقيام بالترجمة وكذلك زكريا بن يحيى بن البطريق، وممن اشتهر في الترجمة والتأليف في الطب أبو زكريا يوحنا بن ماسويه (ت857م)[26] فكان لهم حينئذ شأن كبير في الحركة العلمية في العصر العباسي وبفضل هذه المدرسة.

وكانت هذه المدارس لا تقوم فقط بمهمة تعليم مختلف صنوف العلم المعروفة وإنما قامت بدور التعريب والتأليف وتعتبر الفترة الواقعة بين ظهور الفرق المسيحية وبين الفتح الإسلامي للعراق غنية بالترجمة من اليونانية إلى السريانية وذلك لأن الفرق المسيحية استخدمت الفلسفة اليونانية لتأييد معتقداتها وكانت الترجمة منصبة على اللاهوت والدراسات الدينية وبعد الفتح ابتدأت الترجمة من اليونانية إلى العربية وذلك منذ العصر الأموي، وشجع الأمويون حركة الترجمة إلى العربية وأول كتاب طبي ترجم إليها كان في خلافة مروان بن الحكم 64هـ وهو كناش[27] هرون القس بن اعين وقد إحتوى على ثلاثين مقالة نقلها من الآرامية إلى العربية ماسرجويه الطبيب البصري وزاد عليها مقالتين[28].

* دوافع حركة التعريب:

إن حركة التعريب قديمة ترجع جذورها إلى عصر الراشدين ولكن هذه الحركة نشطت في عهد عبدالملك بن مروان وابنه الوليد حين جعلا اللغة العربية اللغة الرسمية في دواوين الدولة ومراسلاتها فما لبثت أن إكتسحت لغات الشعوب المفتوحة من فارسية ورومية وقبطية وبربرية ويونانية وسريانية وعبرية وأصبحت وحدها شائعة في دار الإسلام لأنها لغة الفاتح ولغة الدين.

إن إقبال أهل الذمة بأعداد كبيرة على الدخول في الإسلام ساعد كثيراً على إنتشار اللغة العربية بينهم لإتقان القرآن وفرائض الإسلام واقتضت الحاجة بالنسبة لهؤلاء إلى تنقيط الحروف العربية وإلى إيجاد قواعد اللغة العربية وهو ما اصطلح على تسميته فيما بعد بعلم النحو[29] ولعل من أقوى الشواهد على المكانة التي أصبحت للغة العربية في الحياة الفكرية إهتمام المثقفين آنذاك بفقهها وتاريخها والإهتمام بفقه اللغة قوى الصلة بالقرآن فكان من الضرورة الماسة أن يفهم العدد الغفير من الداخلين بالعربية التي هي لغة التعبد الإسلامي، وقد دعت الحاجة إلى تمهيد السبل أمام هؤلاء الأعاجم إلى إمتلاك ناصية الدقائق المعنوية في العربية والتضلع في متنها الزاخر بالمفردات وهذا هو السبب الذي جعل معجم الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري أساساً لنشأة فقه اللغة العربية وتطوره ثم إن سيبويه الفارسي أحد تلاميذ الخليل قام بخدمة جليلة عندما وضع علم النحو في صورة نظامية جرت عليها الأجيال المقبلة وكان ينافس سيبويه في هذا العلم الكسائي الكوفي[30]، ولذا كان على سكان البلاد المفتوحة أن يتعلموا العربية وأن يقرأوا ويكتبوا بها ليستفيدوا منها لدينهم ودنياهم حتى اضطروا أن يتعلموا النحو لإصلاح لغتهم[31]، وأقبلوا على تعلمها فعلاً ونقلوا إليها علومهم وحتى كتبهم المقدسة كالتوراة والإنجيل والزبور[32] وذلك لإظهار تراثهم الحضاري والثقافي للفاتحين ونتيجة لشعورهم برغبة المسلمين للإطلاع على ما عند الأمم الأخرى من علوم ومعارف كما أن إقبال البعض من أهل البلاد المفتوحة على ذلك تحقيقاً لمكاسب مادية ومعنوية[33].

ويبدو أن إقبال المسلمين على تشجيع حركة التعريب يعود أيضاً إلى ظهور الفرق الإسلامية وبروز فكرة الإعتزال والقول في القضاء والقدر وإحتدام الجدال بين هذه الفرق الإسلامية ثم إتساع نطاق الجدال الديني بين المسلمين وأهل الذمة ولا سيما النصارى واليهود وقد وجد المسلمون أن هؤلاء يقارعونهم الحجج للدفاع عن آرائهم ومعتقداتهم بالمنطق والفلسفة فأقبل المعتزلة على دراسة كتب الفلسفة اليونانية المعربة للإستفادة منها في الدفاع عن الإسلام تجاه أقرانه من الذميين[34].

وقد لعبت الفتوحات الإسلامية والفكر الإسلامي دوراً كبيراً في عملية التعريب حيث أقبل العرب تحت شعار المساواة بين مختلف الشعوب على التزوج بالأجنبيات من البلاد المفتوحة هذا الإقبال الشديد كان له أثره في إقبالهم على تعلم العربية وإتقانها. وتبع ذلك نشاط تجارة الرقيق وأخذ النخاسون يقيمون المدارس لتعليم الجواري الفارسيات والروميات والتركيات اللغة العربية وفنون الغناء واستخدام آلات الطرب ولم يلبث الخلفاء أن أنشأوا في جميع المدن المهمة مراكز وجمعوا حولهم كل عالم قادر على ترجمة علوم اليونان وكتبهم ولا سيما كتب أرسطو وجالينيوس وغيرهم ونقلها من السريانية إلى العربية. ولم يدم إكتفاء العرب بما نقل إلى لغتهم طويلاً فقد تعلم عدد غير قليل منهم اللغة اليونانية ليستقوا منها مباشرة ثم تعلمو اللغة القشتالية في إسبانيا كما يشهد بذلك ما في مكتبة الأسكوريال من المعجمات العربية اليونانية والعربية اللاتينية والعربية الإسبانية التي ألفها علماء من المسلمين[35]، وأصبحت مهنة الترجمة حرفة فصارت عملاً وراثياً يتولى عليه من الأسرة الواحد تلو الآخر[36].

وقد بدأت أولى المحاولات للتعريب في العهود الإسلامية بـ(تعريب النقود) وذلك منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب فقد ضرب الدراهم على نقش الكسروية وجعل نقش بعضها (الحمدلله) ونقش بعضها الآخر (محمد رسول الله) أو (لا إله إلا الله وحده) وتبت معيارها وأوزانها، وضرب عثمان بن عفان دراهم عربية بنقش (الله أكبر)[37] أما علي بن أبي طالب فقد شغلته الفتنة عن ضرب عملة جديدة، ولما تولى معاوية بن أبي سفيان الخلافة كتب إلى زياد بن أبيه والي العراق ليضرب عملة جديدة غير عملة عمر ينقش عليها إسمه[38]، ولما أعلن عبدالله بن الزبير نفسه خليفة في الحجاز ضرب دراهم ونقش على أحد وجهي الدرهم (محمد رسول الله) وعلى الوجه الآخر (أمر الله بالوفا والعدل)[39] وضرب أخوه مصعب سنة 70هـ دراهم في العراق أعطاها للناس في العطاء[40]، نقش على أحد وجهي الدرهم (بركه) وعلى الوجه الآخر كلمة: (الله)[41].

ولم يكن في الأمصار الإسلامية في بداية العهد الأموي سكة عربية إسلامية معترف بها قبل مجيئ عبدالملك بن مروان بل كان لأمراء الولايات دور سك خاصة يسكون فيها العملة حسب إحتياجاتهم ولهذا كانت قيم النقد غير مستقرة الأمر الذي شجع على التزييف والتلاعب[42].

وإن ما فعله عبدالملك والحجاج من تعريب للنقود إنما جاء مبنياً على ما صنعه عمر بن الخطاب حين نظر إلى الدراهم الفارسية التي اختلفت أوزانها عشرة قراريط، أو اثني عشر قيراطاً، أو عشرين قيراطاً فجمع ذلك فبلغ اثنين وأربعين فأخذ ثلثه أو (معدله) فكان أربعة عشر قيراطاً فجعله الوزن الشرعي[43]، الذي حدده عمر كاملاً غير منقوص[44]

وروى البلاذري[45] أن سعيد بن المسيب سأل: عن أول من ضرب الدنانير المنقوشة؟ فأجاب: عبدالملك بن مروان عام الجماعة سنة 74هـ وأن ضرب الدراهم بدأ في سنة 75هـ ثم أمر بتعميمه في جميع النواحي سنة 76هـ. 

وقال ابن الأثير[46]: "أنه لما صارت الخلافة إلى ملوك بني أمية وقد أغفلوا أمر المعاملة بما تشاغلوا به عن أمور نفوسهم تفاحش الغش في التجارة وصارت تنسب إلى الروم سكة ليست من ضرب الفرس فيما ابتدع الناس من دنانير كسرى وقيصر فعني عبدالملك بتمييز المغشوش من الدنانير والدراهم فضرب في دمشق".

ويرى البعض من المؤرخين أن هناك صلة من سوء العلاقات بين دولتي الإسلام والروم وبين تفكير المسلمين في وضع عملة مستقلة لهم[47] ويعلل هذا الإجراء بسبب أن الحرب أدت إلى إنقطاع التجارة وقلة النقد مما دعا عبدالملك إلى الشروع في إصدار عملة خاصة ليحقق للدولة إستقلالها الإقتصادي فأنشأ دار للضرب.

وقيل: أن الحرب اقترنت بمسألة خطيرة وأدت من سوء العلاقات لمساسها بالدين والمصلحة الإقتصادية وهي مسألة (القراطيس) (ورق الكتابة) التي ذكرتها المصادر العربية وخلاصة هذه المسألة كما ذكر البلاذري[48] أن القراطيس كانت تؤخذ من مصر إلى بلاد الروم التي تضرب فيها الدنانير وكانت الأقباط تكتب في رؤوس الطوامير (الصحف) عبارات تنسب الربوبية إلى المسيح كما ترسم في صدرها الصليب فأمر عبدالملك أن يكتب في مكانها آية {قل هو الله أحد} وغيرها من ذكر الله فكره ذلك ملك الروم واشتد عليه، وكتب إلى الخليفة: (إنكم أحدثتم في قراطيسكم كتاباً نكرهه فإن تركتموه، وإلا آتاكم في الدنانير من ذكر نبيكم ما تكرهونه) قال: فكبر ذلك في صدر عبدالملك لأنه كره أن يدع سنة حسنة. سنها إزاء هذا التهديد فاستشار من حوله فأشار عليه خالد بن يزيد بن معاوية بأن يحرم دنانيرهم ويمنع التعامل بها ويضرب للناس سككاً ويمنع أن يدخل بلاد الروم شيئ من القراطيس (فمكثت حيناً لا تحمل إليهم). فانقطعت التجارة التي كان بها يتم التبادل بالأوراق والدنانير ويبدو أن السبب المباشر الذي دفع عبدالملك إلى تعريب النقود يعود إلى توقف التجارة وإنقطاع النقد ورغبة في تحقيق الإستقلال الإقتصادي للدولة فأنشأ داراً للضرب[49] كما أشرنا سابقاً وضرب دنانير ذهبية عرفت بالدمشقية[50].

ويعلل أمير علي[51] الإجراء بقوله: "إن الدولة الإسلامية التي مضى عليها أكثر من نصف قرن منذ أيام الفتح الأولى لا يمكنها أن تظل معتمدة في نشاطها الإقتصادي المتزايد على النقد الأجنبي كما أن العملة الفارسية كانت مغشوشة ومضطربة لفساد الوضع في الدولة الفارسية".

ويؤيد ذلك ما رواه الماوردي[52] بقوله: "وقد كان الفرس عند فساد أمورهم فسدت نقودهم فجاء الإسلام ونقودهم من العين والورق والفضة والذهب غير خالصة إلا أنها كانت تقوم في المعاملات مقام الخالصة إلى أن ضربت الدراهم الإسلامية فتميز المغشوش من الخالص".

ورغم أن العملة البيزنطية والفارسية كانت متداولة بجانب العملة المحلية إلا أن إتساع أطراف الدولة العربية وتقدم التجارة أدى إلى وضع نظام ثابت للنقد[53] مما دفع عبدالملك بن مروان إلى ضرب سكة إسلامية جديدة وأصبحت النقود عربية صرفة[54]. وبعث بها إلى الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق حتى إذا فرغ من ضرب الدراهم بعث بالسكة إلى سائر الأمصار لتضرب الدراهم بها وكان قد ضرب في دمشق دنانير من الذهب سنة 73هـ بعد أن كانت كلها حتى ذلك التاريخ رومية[55] وبعد أن فرغ عبدالملك من ضرب الدنانير والدراهم كتب إلى عماله بالأمصار يأمرهم بأن يقسروا الناس على التعامل بالسكة الجديدة وأن يتهددوا بالقتل كل من تعامل بغيرها من العملة القديمة وأن يجمعوا له النقود القديمة المتداولة حتى يحولها إلى سكة إسلامية[56].

وفي عهده أيضاً بدأ بتعريب الدواوين ولا سيما تلك التي وجدت في البلاد المفتوحة أما الدواوين الأولى (الجند وبيت المال) فقد كانت باللغة العربية منذ نشأتها في عهد الخليفة عمر بن الخطاب[57] أما التي وجدت في البلاد المفتوحة فقد أبقاها العرب على حالها وهي المختصة بالجباية وحساباتها فظلت على ما كانت عليه، ففي العراق وسائر بلاد الشرق كانت بالفارسية وفي الشام كانت بالرومية[58] (اليونانية) وفي مصر بالقبطية[59]، ويبدو أن دوافع تعريب الدواوين المالية كان يقصد منه ضبط أعمالها والإشراف عليها منعاً من الغش والتزوير[60]، (وأدى هذا الإجراء (التعريب) إلى إيجاد طبقة جديدة من الكتاب وإلى نهضة لغوية أدبية رائعة)[61].

بدأ عبدالملك بعمله الجليل هذا بتعريب دواوين الشام وأمر كاتبه على الرسائل سليمان بن سعد الخشني أن يحول الديوان من الرومية إلى العربية[62] وكان ذلك سنة 81هـ، وقد طلب من عبدالملك أن يجعل له خراج الأردن في مقابل العمل والذي بلغ يومئذ 180 ألف دينار[63].

أما دواوين العراق فقد عربت أيام ولاية الحجاج بن يوسف على العراق فقد عهد إلى صالح بن عبدالرحمن بنقل الديوان من الفارسية إلى العربية وقد كان صالح يحذق الفارسية والعربية معاً وجعل له أجلاً لذلك فأتم صالح مهمته بنجاح وقيل: إن (مرادنشاه) ابن (زازان فروخ) كاتب الحجاج بذل له مائة ألف درهم على أن يظهر العجز عن هذا العمل ويمسك عنه فأبى فدعا عليه إذ أنه قطع أصل الفارسية[64].

وقد عربت الدواوين المصرية في ولاية عبدالله بن عبدالملك في خلافة الوليد سنة 87هـ وصرف (انشناس) عن الديوان وجعل عليه ابن يربوع الفزارى من أهل حمص[65] غير أن الدواوين المالية في خراسان لم تعرب وبقيت بالفارسية وكان أكثر كتابها من المجوس حتى كتب يوسف بن عمر في سنة 124هـ إلى نصر بن سيار عامله على خراسان يأمر بنقله إلى العربية ولا يستعان فيه من الكتاب بغير المسلمين وقام بعملية التعريب هناك إسحاق بن طليق الكاتب – من بني نهشل – وقد كان مع نصر بن سيار فأصبح خاصاً به[66].

أما تعريب العلوم فقد بدأت المحاولات الأولى فيه خلال العصر الأموي وكانت على الأغلب جهود فردية وعلى نطاق ضيق واقتصرت على العلوم العملية كالطب والفلك والعلوم العقلية (كالمنطق والفلسفة والهندسة) كما عربت بعض الألفاظ اليونانية واطلقوا عليها كلماتها الأصلية مثل البرجد (وهو كساء غليظ مخطط) وأسماء أشياء عرفها العرب بعد إتصالهم بالروم كالزبرجد والزمرد والياقوت ومقاييس وأوزان رومانية كالقيراط والأوقية وأسماء طبية أو نباتية كالقولنج والبرقوق أو كلمات نصرانية كالجاثليق والبطريق وغيرهم[67]. وقد توسعت حركة التعريب خلال القرن الأول الهجري بتأثير المسيحيين ورغبة بعض الأمويين فإن خالد بن يزيد الأول (ت85هـ) كان عالماً وأديباً ومن أول المحبين لعلوم اليونان فأمر بترجمة الكتب في علم الهيئة والطب والكيمياء حتى روى أنه وجد الحجر الفلسفي الذي يصنع به الذهب الإصطناعي[68].

وترى هونكة[69] إن لفشل الأمير الأموي خالد بن يزيد وإكراهه على التنازل عن العرش أثر كبير في نفسه دفعه إلى حقل جديد مجاله العلوم وأبحاثها.

ويرى بعض المؤرخين[70]: أن تنحية خالد بن يزيد عن الخلافة وغلبه مروان بن الحكم عليها كانت صدمة قوية للأمير خالد فتحول إلى ملهى يلهو به ويناسب ارستقراطيته فكان ذلك هو (الصنعة) رأى انه إذا استطاع أن يحول المعادن إلى ذهب استطاع أن يحول الناس إليه أو على أقل تقدير سيكون له من المنزلة ما يحسده عليها الخلفاء.

وهذا الرأي ينسجم مع ما أشار إليه ابن النديم[71] من قول خالد: ما أطلبه بذلك إلا أن أغنى أصحابي وإخواني، إن طمعت في الخلافة فاختزلت دوني فلم أجد منها عوضاً إلا أن أبلغ آخر هذه الصناعة فلا أحوج أحداً – عرفني يوماً أو عرفته – إلى أن يقف بباب سلطان رغبة أو رهبة.

وشجع عمر بن عبدالعزيز تعريب كتب الطب فأمر بنشر كتاب الطب الشرعي الذي نقله إلى العربية متطبب البصرة مارسرجونة في عهد الخليفة مروان بن الحكم وقد وجده في خزائن الكتب بالشام[72].

وأشهر من قام بدور التعريب في العصر الأموي يعقوب الرهاوي الذي ترجم كثيراً من كتب الإلاهيات اليونانية إلى العربية[73]. واضطلع السريانيون بنشر الفلسفة اليونانية في العراق وما حوله وأخذوا ينقلون الكتب اليونانية إلى لغتهم السريانية وهي إحدى اللغات الآرامية – التي انتشرت فيما بين النهرين والبلاد المجاورة لها – وكان من أهم مراكزها الرها ونصيبين وظلت هذه المدن مراكز للثقافة اليونانية إلى ما بعد الفتح الإسلامي تدرس فيها الرياضيات والفلك والفلسفة على المذهب الأفلاطوني وهم الذين تسموا – بعد ذلك – في عصر المأمون وبعده بالصابئيين وكان منهم كثير من المؤلفين وممن تولوا الترجمة إلى العربية بعد ذلك. وخدم السريانيون العلم والفلسفة بما ترجموا من كتب الفلسفة اليونانية التي أصبحت الأساسُ الذي اعتمد عليه العرب والمسلمون وكان لهم الفضل الكبير في نقل الفلسفة والعلوم إلى العربية في العصر العباسي[74].

إن العرب مع كثرة ما نقلوه عن اليونان لم يتعرضوا لشيء من كتبهم التاريخية أو الأدبية أو الشعر مع أنهم نقلوا من تاريخ الفرس وأخبار ملوكهم ولكنهم لم ينقلوا تاريخ هيرودتس ولا جغرافية استرابون ولا الياذة هوميروس ولا اوديسته ويرى بعضهم أن أكثر ما بعث المسلمين على النقل رغبتهم في الفلسفة والطب والنجوم والمنطق ويرى غيرهم أن الراحلين من اليونان أيام الإضطهاد إلى حران لم يكونوا أدباء ولا مؤرخين وإنما كانوا فلاسفة أطباء[75].

ويرى بعض المؤرخين[76] أن وراء عملية التعريب قوى ظاهرة وخفية تحركها نوايا خيرة تريد خدمة العلم والعمل على نشره أو سيئة تريد أن تشيد بماضي الفرس وتراثهم وتعمل على الحط من تراث العرب مضمرة السؤ للمسلمين. ويبدو أن للإزدهار الحضاري ونشاط الحركة العلمية والثقافية دوراً كبيراً في نشاط حركة التعريب فقد أخذ المثقفون الفرس يعربون تراث آبائهم في التنجيم والهندسة والجغرافية وخاصة ممن يجيدون اللسانين الفارسي والعربي ويبدو أنهم قلة بالمقارنة بمن نقل عن اليونانية والسريانية ومرده إلى العلاقة السياسية ومجرى التيار الحضاري.

وقد أقبل كثير من الفرس على حذق اللغة العربية والتثقف بآدابها فقد عجب الجاحظ بموسى بن سيار الأسواري – أحد القصاص – فقال ومن أعاجيب الدنيا كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية وكان يجلس في مجلسه المشهور فيقعد العرب عن يمينه والفرس عن يساره فيقرأ الآية في كتاب الله ويفسرها للعرب بالعربية ثم يحول وجهه إلى الفرس فيفسرها لهم بالفارسية[77]، ويقول عنهم أحمد أمين أن هؤلاء الفرس الذين تعربوا وهؤلاء العرب الذين أخذوا بقسط من الثقافة الفارسية ملأوا الدنيا في العصر العباسي علماً وحكمة وشعراً ونثراً لسيادة اللغة العربية فكان نتاج العقول الفارسية الراجحة إنما هو باللغة العربية لا الفارسية[78].

وقد عقد ابن النديم[79] في كتابه الفهرست فصلاً بأسماء النقلة من الفارسية إلى العربية ذكر منهم عبدالله بن المقفع وآل نوبخت وموسى ويوسف ابني خالد ومحمد بن الجهم البرمكي وزادويه بن شاهويه الأصفهاني ومحمد بن بهرام بن مطيار الأصفهاني وبهرام بن مردان شاه وعمر بن الفرخان الطبري وإسحق بن يزيد الذي نقل إلى العربية كتاب سيرة الفرس المعروف باختيار ناما والبلاذري أحمد بن يحيى بن جابر المؤرخ المشهور وقد ترجم عهد أردشير شعراً ولم يعن المترجمون بترجمة وتعريب كتب تاريخ الفرس فقط بل عربوا الكتب الدينية ككتاب زرادشت المسمى (الافستا) وما عليه من شروح، كما ترجموا في الأدب عن الفرس كتاب كليلة ودمنة واليتيمة والأدب الكبير والصغير وكتاب (هزار افسانة) ومعناه ألف خرافة وكتاب موبذ موبذان وكتاب أردشير في التدبير وتوقيعات كسرى وكتاب أدب الحرب[80].

وأن ما ترجم عن العبرية لا يتعدى الإهتمامات الدينية اليهودية من ذلك ترجمة التوراة إلى العربية التي قام بها سعدياً الفيومي المصري في عام 330هـ وهو أقدم من نقله إلى العربية ووضع عليها الشروح والتفاسير وذلك لسيادة اللغة العربية على ما يبدو وأن ما نقل عن الهندية كتب الطب والنجوم والرياضيات والحساب وبعض كتب السحر[81].

وأهم ما عرب من كتب الهند كتاب عرف بـ(السند هند) لمؤلفه (براهما جوبتا) في حركات النجوم وأمر المنصور بترجمته إلى العربية وبأن يؤلف كتاب على نهجه وعهد بهذا العمل إلى محمد بن إبراهيم الفزاري الذي ألف على نهجه كتاب يعرفه الفلكيون باسم (السند هند الكبير) وقاد هذا الكتاب إلى أبحاث كثيرة في الفلك ومنه أيضاً عرف العرب نظام الأرقام والأعداد الهندية[82].

ولقد بدأت حركة تعريب واسعة النطاق في النواحي العلمية والثقافية في العصر العباسي الأول منذ خلافة المنصور الذي كان شغوفاً بالطب والهندسة ويعتقد بالنجوم وهو أول من راسل ملك الروم يطلب منه كتب الحكمة فبعث إليه كتاب اقليدس وبعض كتب الطبيعيات[83] وجمع حوله العلماء وشجعهم على ترجمة العلوم من اللغات الأخرى وقد عرب كل من جورجيس بن جبرائيل الطبيب وعبدالله بن المقفع كتب المنطق لأرسطو طاليس واعتنى يوحنا بن ماسويه وسلام الأبرش وباسيل المطران بكتب الطب[84]. وفي عهده قام إبراهيم الفزاري بتعريب كتاب الفلك الهندي الموسوم بـ(السند هند)[85].

كما استهل أبو يوسف يعقوب الكندي (فيلسوف العرب) وأحد العقول الكبرى في تاريخ العالم آنذاك نشاطه الفكري الذي لم يقتصر على تعريف مواطنيه بالفلسفة الأرسطو طاليسية والأفلاطونية عن طريق الترجمة فحسب بل تعدا ذلك إلى توسيع آفاقهم العقلية بما أخرج من دراسات في التاريخ الطبيعي وعلم الظواهر الجوية مكتوبة بروح تلك الفلسفة[86].

وقد زادت عناية الرشيد واهتمامه بتعريب الكتب فأمر بترجمة جميع ما وقع في حوزتهم من الكتب اليونانية كما وسع ديوان الترجمة الذي كان قد أنشأه المنصور لنقل العلوم إلى العربية وزاد عدد موظفيها فأسند تعريب الكتب إلى الطبيب يوحنا بن ماسؤيه وعين له كتاباً حذاقاً يشتغلون بين يديه ويساعدونه في عمله[87]، وكان الفضل بن نوبخت المكنى بأبي سهل الفارسي ينقل كتب حكماء الفرس التي جمعت من خراسان وفارس إلى العربية[88]، ومثله علان الفارسي الذي كان يعمل في خزانة الحكمة ويترجم للرشيد وللبرامكة.

ولما تولى المأمون الخلافة اهتم بتعريب علوم الأوائل واقتدى بسياسة والده الرشيد في إهتمامه بالعلوم وأخذ يضمن شروط الصلح مع ملوك الروم إرسال كتب الحكمة فكان أحد شروط الصلح بينه وبين ميخائيل الثالث أن ينزل للمأمون عن إحدى المكتبات الشهيرة في القسطنطينية وكان من بين ذخائرها الثمينة كتاب بطليموس في الفلك فأمر المأمون بتعريبه وسماه المجسطي[89]، كما أنشأ بيت الحكمة وهو مجمع علمي ومرصد فلكي ومكتبة يقيم فيه طائفة من المترجمين من أهل الذمة وتجري عليهم الأرزاق من بيت المال، وأرسل المأمون بعد ذلك بعثة علمية لشراء كتب الحكمة من بلاد الروم مكونة من الحجاج بن مطر وابن البطريق وسلم صاحب دار الحكمة فأخذوا مما إختاروه عدداً كبيراً وحملوه إلى بغداد فأمرهم المأمون بتعريبها فاجتمع عنده في دار الحكمة مجموعة كبيرة من كتب الفلسفة والمنطق والموسيقى والفلك وغيرها[90] إلى جانب كنوز العلوم الإسلامية[91]، وما أضافه الرشيد والمأمون من كتب العلم في لغات مختلفة وما جمعه يحيى بن خالد من كتب الهند[92].

وبلغت حركة التعريب أشدها في عهده إذ حرص على نقل ما يتفق مع العقلية العربية الجديدة من التراث الهيليني والشرقي إلى العربية، فقد بلغ التمازج الثقافي بين الثقافة العربية الإسلامية الجديدة وعلوم الأولين درجة كبيرة من التقدم. ويرى البعض من المؤرخين[93] أن إزدهار التعريب لا يعطي للمأمون أكثر من كونه رمزاً للعصر وليس بالمحرك ولا الباعث له إذ لم يبق المأمون في بغداد أكثر من عشر سنوات بين 204 – 214 وكان تشجيعه للعلماء في جانب كبير منه عملاً سياسياً أكثر مما هو علمي وكان ما فعله المأمون في هذا المجال أنه وسع دائرة الترجمة الموجودة في البلاط العباسي فجعل من مهمة (خزانة الحكمة) وأصحابها تعريب الكتب الفلسفية أيضاً.

ويرى البعض من المؤرخين[94] أن المأمون قد تأثر بالإعتزال عن طريق أستاذه ومؤدبه يحيى بن المبارك الذي كان قد اتصل به منذ صباه في أيام الرشيد بالإضافة إلى أنه كان محوطاً بشيوخ الإعتزال أمثال ثمامة بن أشرس ويحيى بن أكثم. أو أنه أراد من إتخاذ الإعتزال مذهباً رسمياً للدولة أن يظفر بتكوين دولة موحده سياسياً بإمتزاج الأحزاب وتوحيد القوى لإستتاب الأمن فكان يريد أن يتخذ من مذهبه الديني مذهباً وسطاً إلا أنه لم يظفر بعنايته لا من الوجهة السياسية بإنتهاء حياة الرضا بالموت مسموماً ولا من الوجهة الدينية التي لم ترض عنها المذاهب الإسلامية الأخرى.

وفي عهده ترجمت كتب اليونان الكبرى مثل كتب أفلاطون وأرسطو في الفلسفة وابقراط وجالينوس في الطب واقليدس وأرخميدس وبطليموس وغير ذلك[95].

إن عصر التعريب الحقيقي إنما قادته جماهير المتعلمين والمترجمين عبر عهد المأمون في عهد المعتصم والواثق والمتوكل واستمر التعريب في عنفوانه وكثافته حتى أواسط القرن الثالث الهجري وأن المد التعريبي لم ينقطع وقد استمر حتى أواسط القرن الرابع الهجري.

لقد إزدهرت حركة التعريب والترجمة على أيدي أهل الذمة الذين عكفوا على ترجمة وتعريب أمهات الكتب السريانية واليونانية والفهلوية والسنسكريتية وكان ذلك بتأثير الخلفاء العباسيين إلا أنهم لم يكونوا وحدهم يهتمون بالترجمة والنقل إلى العربية بل نافسهم الوزراء والأمراء والأغنياء وأهل العلم وأخذوا ينفقون الأموال الطائلة عليها[96]، قال ابن المصطفى[97]: "إن البرامكة شجعوا تعريب صحف الأعاجم حتى قيل: أن البرامكة كانت تعطي المعرب زنة الكتاب المعرب ذهباً".


التعليقات