نشأة اللغة العربية وتطورها وثباتها أمام التحدياتبسم الله الرحمن الرحيم
المبحث الأول :نشأة اللغةتمهيد في تعريف اللغة:عرف القدماء اللغة بأنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم ولم تستطع التعريفات الحديثة للغة أن تتجاوز هذا التعريف الموضوعي، غير أن تعريف اللغة بوظيفتها يختلف عن تعريفها بحقيقتها وعلاقتها بالإنسان.. فاللغة هي الإنسان، وهي الوطن والأهل، واللغة التي هي نتيجة التفكير.. هي ما يميز الإنسان عن الحيوان وهي ثمرة العقل والعقل كالكهرباء يعرف بأثره، ولا تري حقيقته. المطلب الأول: أهمية هذا المبحثقد يظن ظان أن مثل هذا البحث لا فائدة منه وإنما هو من الترف الفكري، حتى إن الجمعية اللغوية الفرنسية قد أصدرت قانونا يمنع من تناول هذا الموضوع، وهو قول له مناصروه من علماء الإسلام. قال ابن السبكي في رفع الحاجب: والصحيح عندي أنه لا فائدة لهذه المسألة، وهو ما صححه ابن الأنباري وغيره[1]. وقد ذكر أبو عبدالرحمن بن عقيل بعض فوائد هذا المبحث ومنها: 1- أن اللغة ليست أقل من غيرها من العلوم والفنون، إذ إن النفس مجبولة على الكشف عن بدايات الأشياء وتطورها. 2- نشأة اللغة أمر مهم في معرفة تطورها، ومن ثم الوصول إلى إمكان الاجتهاد فيها. 3- أخذت هذه المسألة من الأسلاف أوقاتا واستغرقت كتبا ، فالتواضع لهم أن نتبع سبيلهم، ونذكر خلافهم. 4- أن المسألة فيها نصوص شرعية، ومن فقه دراسة هذه النصوص أن نعلم معناها، وما تشتمل عليه من عقيدة[2]. المطلب الثاني: أصل اللغةهناك عدة نظريات واردة في أصل اللغة، فمنها ما بعيد كل البعد عن الحقيقة، ومنها ما فيه جزء من الحقيقة، ومنها ما هو محتمل للحقيقة، وقد أحصى الدكتور أنيس فريحة تسع نظريات ومن أقواها: 1- نظرية البو-وو، وخلاصتها أن أصل اللغة محاكاة أصوات طبيعية كالرنين والغنة والزقزقة والقهقهة والحفيف والخرير والخشخشة والطقطقة. 2- نظرية محاكاة الأصوات لمعانيها، فيجعل أصحاب هذه النظرية لكل حرف معنى، فتكون الكلمات المبدوءة بهذا الحرف قريبة من هذا المعنى. فمثلا حرف الغين، يدل على الظلمة والانطباق والخفاء والحزن، كما في عم وغيم وغبن وغبطة وغفلة. والفاء يدل على الإبانة والوضوح مثل: فتح وفرح وفضح وفلق وفجر وفسر.والحاء على الانبساط والسعة والراحة، مثل: حسب وحق وحرية وحياة وحسن وحركة وحكمة وحلم وحزم. والضاد يدل على الشؤم مثل:ضجر وضر وضجيج وضوضاء وضياع وضلال وضنك وضيق. وهكذا. 3- نظرية الأصوات العاطفية التعجبية، كأي ووي[3]. وحقيقة فإن جميع ما تقدم قد يدل على نشأة بعض الكلمات لا عن نشأة جميعها. المطلب الثالث: مسألة مبدأ اللغات عند علماء الأصولاختلف علماء الإسلام في مبدأ اللغات على أقوال: * القول الأول: أن اللغات توقيف من الله تعالى بإلهام أو وحي أو كلام. ورحج هذا القول ابن الجوزي[4] وابن قدامة[5] والطوفي[6] وهو مذهب الظاهرية[7] والأشاعرة[8]. ودليل هذا القول قوله تعالى: "وعلم آدم الأسماء كلها .."(البقرة :31). وحديث الشفاعة الطويل وفيه قول الناس لآدم: "وعلمك أسماء كل شيء"[9]. * القول الثاني: أنها اصطلاحية، وهو قول الجبائي من المعتزلة. ودليله قوله تعالى: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ..."(إبراهيم:4). ووجه الدلالة أن اللغة سابقة سابقة لإرسال الرسل وإلا لزم الدور[10]. * القول الثالث: أن بعضها توقيفي وبعضها اصطلاحي، وبه قال ابن عقيل من الحنابلة[11]. * القول الرابع: أن كلا القولين ممكنان، وبه قال أبو يعلى[12] وأبو الخطاب[13] والباقلاني[14] والجويني[15]. * * القول الخامس: التوقف، وبه قال ابن الحاجب[16] وابن دقيق العيد[17] والسبكي[18]. المطلب الرابع: بدايات اللغة العربيةاللغة العربية أقدم اللغات التي ما زالت تتمتع بخصائصها من ألفاظ وتراكيب وصرف ونحو وأدب وخيال مع الاستطاعة في التعبير عن مدارك العلم المختلفة، ولا شك أن اللغة اليونانية والعبرية والسنسكريتية واللاتينية قد بدأ تدوينها كلها قبل اللغة العربية بقرون كثيرة، ولا يزال في الحياة إلى اليوم لغة يونانية وعبرية وسنسكريتية، ولكن هذه اللغات فقدت كثيرا من ألفاظها وقواعد الصرف والنحو فيها. إن اليوناني اليوم لا يتكلم لغة هوميروس أو لغة أرسطو وأفلاطون، وإن اللغة اللاتينية ما زالت حية في عدد من المواعظ الدينية فقط، ولم يبق لها صلة بالحياة، ولكن اللغة العربية اليوم ما زالت لغة القرآن الكريم ولغة الشعر الجاهلي في صرفها ونحوها، إلا أن بعض الألفاظ كانت تستخدم في الماضي ولكنها الآن لم تعد تستخدم إلا في نطاق ضيق. وقد كان علماء اللغات يقسمون لغات العالم ثلاثة أقسام: سامية وحامية ويافثية، نسبة إلى أولاد نوح الثلاثة: سام وحام ويافث، وهذا لا يعقل إذ كيف ينشأ ثلاثة إخوة، وكل واحد يتكلم بلغة لا يفهما الآخر، والأولى أن تسمى اللغات الأعرابية وهي تشمل اللغة العربية والحميرية والعبرية والآرامية والبابلية[19]. ولكن ثمة أمر مدهش للغاية وهو أن الباحثين في تاريخ اللغة العربية يجزمون بأنه لا يعرف عن طفولة اللغة العربية شيء، وأقدم ما يعرف منها يصل إلى القرن الخامس الميلادي على أبعد تقدير، وهذه النصوص الأدبية المروية تمثل اللغة العربية في عنفوان اكتمالها[20]. ويذهب كثير من الباحثين في تاريخ اللغة العربية إلى أنها تنقسم قسمين: لهجات بائدة، وأهمها ثلاث: الثمودية والصفوية واللحيانية. وأما الباقية فمن أشهرها قريش وطيء وهذيل وثقيف وغيرها. وأفصح اللهجات على الإطلاق لهجة قريش وأما اللهجات الأخرى فقد كانت مليئة بالكلمات الثقيلة على السمع، والإبدالات الغريبة التي قد تخلط الكلمة بكلمة مختلفة عنها، فمما عابوه من اللهجات: 1- عنعنة تميم: فهم يجعلون الهمزة المبدوء بها عينا فيقولون في أُذُن: عُذُن. 2- كشكشة ربيعة: فهم يجعلون بدل كاف المخاطبة شينا فيقولون بدل: عليكِ بالصبر يا هند: عليش بالصبر. 3- كسكسة هوازن: فهم يجعلون بدل كاف المخاطبة سينا فيقولون بدل: عليكِ بالصبر يا هند: عليس بالصبر. 4- تضجع قيس فهم يميلون الأحرف إلى الكسر. 5- عجرفة ضبة: فهم معروفون بالتقعر والجفاء في الكلام. 6- ثلثلة بهراء: وهي أنواع منها كسر ما عدى الياء من حروف المضارعة ، فيقولون في تأذن وتأثم: تِيثم وتِيذن. 7- فحفحة هذيل: يجعلون الحاء عينا ، فيقولون في أحل الله البيع: أعل الله البيع. 8- عجعجة طيء، فهم يجعلون الياء المشددة جيما، فيقولون في تميمي: تميمجّ. 9- لخلخائية الشحر وعمان، فهم يقولون في ما شاء الله: مشا الله. 10- غمغمة قضاعة: وهي مثل الهمهمة وهو كلام لا يفهم من غيرهم. 11- وتم حمير: فهم يجعلون السين تاء فيقولون في : الناس، النات. 12- الإنطاء وهو معروف عند بعض العرب بحيث يجعلون مكان العين الساكنة نونا إذا جاورت الطاء فيقولون ينطي بدل: يعطي. 13- الطمطمائية، وهي إبدال لام التعريف ميما فيقولون : طاب أمهواء بدل: طاب الهواء. 14- المعاقبة: وهي تعاقب الواو والياء، فيقولون: أوبة وأيبة وعزوت وعزيت وتحوز وتحيز[21]. المبحث الثاني: تطور اللغة العربية وأهميتها قبل الإسلاملقد كان لعرب الجاهلية الأولى مؤتمر لغوي يعقدونه في كل عام في الحجاز بين نخلة والطائف يجتمع فيه شعراؤهم وخطباؤهم لتناشد الأشعار، بل إنهم يعقدون المسابقات الأدبية ويعرضون أنفسهم على قضاة منهم للموازنة بينهم فيحكمون لمبرزهم على مقصرهم حكما لا يرد ولا يعارض. واهتمامهم الكبير بهذه المؤتمرات إنما هو بسبب شعورهم بضرورتها لتشعب لغتهم بين اليمن والشام ونجد وتهامة لصعوبة التواصل في تلك البقاع وبعد ما بين قاصيها ودانيها، فكان مطمع أنظارهم في ذلك المجتمع توحيد لغتهم وجمع شتاتهم والرجوع بها إلى لغة قريش التي هي أفصح اللغات وأقربها مأخذا وأسهلها مساغا وأحسنها بيانا[22]. المطلب الأول: تميز لغة قريشإنما تبوأت لغة قريش هذه المكانة بسبب أن العرب كانوا يحضرون موسم الحج كل عام، وقريش يسمعون من لغات العرب فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به، فصاروا أفصح العرب، وخلت لغتهم من مستبشع اللغات ومستقبح الألفاظ[23]. وبعبارة أخرى نجد أنَّ أقوى سببين لتميز لغة قريش وتفوقها: 1- بعدها عن بلاد العجم، فلم يخالطوا الأعاجم من الفرس والروم والحبشة مخالطة تؤثر على لغتهم[24]. 2- أن العرب كانوا يفدون إلى مكة في الموسم ويقيمون فيها قريبا من خمسين يوما فيتخير القرشيون من لغات العرب ما استحسنوه ويهملون ما استبشعوه، فصاروا بذلك أفصح العرب[25]. المطلب الثاني: أثر القرآن في الحفاظ على لغة العربفلا عجب أن ينزل القرآن بلسان قريش ويجمع الناس على لغتهم ، فصار نزوله بأفصح لسان وأحكم بيان فقضى على مواطن الخلاف ومحى جوانب الاختلاف فجمع الشمل ووحد الكلمة وهذب العبارة وارتقى بالأسلوب، فحفظ اللغة بعد أن لاحت في الأفق نذر الافتراق، فالاندثار. ووحدها بعد أن بدت سمات الاختلاف. فوضح لكل ذي لب أنه لولا القرآن وأسراره البيانية ما اجتمع العرب على لغنه، ولو لم يجتمعوا لتبدلت لغاتهم بالاختلاف الذي وقع ولم يكن منه بد، ثم يصير مصير هذه اللغات إلى العفاء لا محالة، وهكذا يتسلسل الأمر حتى تستبهم العربية فلا تبين إلا بضرب من إشارة الآثار وتنزل منزلة الهيروغليف الذي قبره المصريون في الأحجار فأحياه علماء الآثار[26]. المطلب الثالث: تأثير القرآن على فصحاء العربنرى أثر القرآن على فصحاء العرب من قريش عظيما إذ أسر بيانه القلوب : "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا"، فعندما جاء الوليد بن المغيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: اقرأ عليَّ، فقرأ عليه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى..."(النحل: 90) فقال: أعد، فأعاد. فقال:" والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه. وإنه ليحطم ما تحته، وما يقول هذا بشر"، ولكنه استكبر بعد ذلك وقال : "إن النبي صلى الله عليه وسلم ساحر" فنزل قوله تعالى: "ذرني ومن خلقت وحيدا" إلى قوله: "سأصليه سقر"( المدثر: 11-26)[27] . ومن عجيب أمر فصحاء قريش أنهم كانوا يغالطون أنفسهم حتى إن أبا جهل كان يذهب في الليل إلى جانب بيت النبي صلى الله عليه وسلم فيستمع ويستمتع بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن في الليل، فإذا طلع النهار وجد صاحب صاحبا له يصنع مثل صنعه فيتلاومان ويتعاهدان على عدم العودة، ويتكرر الأمر مرات. ونجد في السيرة حوادث أخرى لتأثير القرآن الكريم على فصحاء قريش فمن ذلك أنه لما قوي أمر النبي صلى الله عليه وسلم وكثر أتباعه ذهب عتبة بن ربيعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عليه الملك والمال على أن يترك الدعوة، فقال صلى الله عليه وسلم:"أفرغت يا أبا الوليد؟ فقال: نعم، فقال: فاسمع مني، قال: أفعل، فقال: "بسم الله الرحمن الرحيم، حم، تنزيل من الرحمن الرحيم، كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون، بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون". فذهب عتبة إلى قومه وقال: إني قد سمعت قولا والله ما سمعته قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش: أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. فقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم[28]. وقد كان من عادتهم أن يتحدى بعضهم بعضا في المساجلة والمقارضة بالقصيد والخطب ثقة منهم بقوة الطبع، فتحداهم القرآن أن يأتوا بمثله أو بعضه، وحكمة هذا التحدي وذكره في القرآن إنما هو أن يشهد التاريخ في كل عصر بعجز العرب عنه وهم الخطباء اللُّدُّ والفصحاء اللُّسُن، وهم كانوا في العهد الذي لم يكن للغتهم خير منه ولا خير منهم في الطبع والقوة، فكانوا مظنة المعارضة والمقدرة عليها، ولكنهم لم يستطيعوا وهذه الحقيقة ينبغي أن تؤكد حتى لا يجيء أعجمي مستشرق أو مواد أو منافق فيزعم أن العرب كانوا قادرين على مثله، وأنه غير معجز. أما الطريقة التي سلكها إلى ذلك، فهي أن التحدي كان مقصورا على طلب المعارضة بمثل القرآن ثم بعشر سور مثله مفتريات لا يلتزمون فيها بالحكمة ولا الحقيقة وليس إلا النظم والأسلوب، ثم قرن التحدي بالتأنيب والتقريع، ثم استفزهم بعد ذلك بجملة واحدة وهي: "وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة.."(البقرة: 23 ). فقطع لهم أنهم لن يفعلوا ، وهي كلمة يستحيل أن تكون إلا من الله تعالى، ولا يقولها عربي في العرب أبدا. فلما رأى العرب المكذبون انقطاع سبل المعرضة عمدوا إلى التهم الرخيصة التي هي حيلة العاجز[29]. المطلب الرابع: الحفاظ على اللغة العربية في العصر الإسلامي الأوللقد كان القرآن جديرا باهتمام الصحابة وحفظه ولكن في خلافة أبي بكر رضي الله عنه قتل من الصحابة نحو من خمسمائة حافظ للقرآن، فأمر أبو بكر رضي الله عنه بجمع القرآن في مصحف واحد. وفي عهد عمر رضي الله عنه انتشرت الفتوحات الإسلامية واختلط العرب بالعجم مما حمل عمر على تحذير العرب من ترك لغتهم إلى لغات البلاد المفتوحة فقال:" إياكم ورطانة الأعاجم"، وكثب أحد عماله رسالة إليه وقد لحن فيها فرد عليه عمر أن قنِّع كاتبك سوطا" وذلك تأديبا له. وفي نحو سنة ثلاثين من الهجرة في خلافة عثمان رضي الله عنه حضر حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فاتح أرمينية وأذربيجان، فرأى من الجيش الإسلامي اختلافا في القرآن، كل واحد يرى قراءته أصح من قراءة غيره. ففزع لذلك وقدم على عثمان وقال له: أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة :" أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها ثم نردها إليك" فأرسلتها إليه، فأمر زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف وقال:" إذا اختلفتم وزيد في شيء فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم". فكتب منه عدة مصاحف فوجه بمصحف إلى البصرة وبمصحف إلى الكوفة وبمصحف إلى الشام وإلى مكة واليمن والبحرين وترك مصحفا بالمدينة، وأمسك مصحفا لنفسه وهو الذي يسمى:" المصحف الإمام". واجتمعت الأمة المعصومة من الخطأ على ما تضمنته هذه المصاحف، وترك ما خالفها[30]. فكان لهذا العمل العظيم الذي قام به عثمان رضي الله عنه آثار خالدة في مجال اللغة حيث تم توحيد الأمة على لغة قريش. وفي عهد علي رضي الله عنه عظم الخطب وقل الضبط، فكثر اللحن حتى إنه روي أن أعرابيا سمع قارئا يقرأ قوله تعالى: "فاعلموا أن الله بريء من المشركبن ورسوله"(التوبة:3 ) بكسر اللام فاستنكر الأعرابي ذلك، فبلغ الخبر عليًّا رضي الله عنه فاهتم لهذا الأمر وأمر أبا الأسود الدؤلي بكتابة النحو. قال ابن خلدون: "فلما خالط العرب العجم تغيرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمستعمربين، والسمع أبو الملكات اللسانية ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها بجنوحها إليه باعتياد السمع ، وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسا ويطول العهد بها فينغلق القرآن والحديث على المفهوم، فاستنبطوا قواعد يقيسون عليها سائر أنواع الكلام وألحقوا الأشباه بالأشباه، مثل أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب، واصطلحوا على تسميتها بعلم النحو، وأول من كتب فيها أبو الأسود الدؤلي، ويقال بإشارة من علي رضي الله عنه، ثم كتب الناس من بعده إلى أن جاء عصر الرشيد فهذب الخليل بن أحمد الصناعة وأخذ عنه سيبويه ثم نشأت المدرستان: الكوفية والبصرية[31]. وقد ألف الخليل بن أحمد كتاب العين يذكر فيها الكلمات العربية حتى لا ينقرض استعمالها فكان أول معجم في العربية. وفي عصر بني أمية اعتمدت الدولة على العنصرية العربية المستعلية مع كثرة المسلمين من الأعاجم، فواجهت شيئا من الكراهية من بعض الأعاجم فكان من أسباب سقوطها[32]. المطلب الخامس: بداية ضعف الاهتمام بالعربيةلما كثر الظلم في العهد الأموي لغير العرب حصلت ردة فعل لهذا الظلم ،فقام العباسيون بالاعتماد على العنصر الفارسي أولا ثم التركي فانتشرت الكلمات الدخيلة انتشارا واسعا وكثر اللحن، وقويت الشعوبية[33] فانتبه علماء الإسلام لخطورة الوضع فكثرت التآليف في مدح العرب والعربية وفساد مذهب الشعوبية، ثم استمر الانحدار وابتعد العرب عن العربية بتملك الأعاجم قيادة العالم الإسلامي. قال ابن خلدون: "ولما تملك العجم من الديلم والسلاجقة بعدهم بالمشرق وزناتة والبربر بالمغرب وصار لهم الملك والاستيلاء على جميع الممالك الإسلامية، فسد اللسان العربي لذلك، وكاد يذهب لولا ما حفظه من عناية المسلمين بالكتاب والسنة اللذين بهما حفظ الدين وصار ذلك مرجعا لبقاء اللغة المضرية[34]. وبعد ذلك بدأت موجة الاستعمار الأوروبي، التي صاحبها هجوم ثقافي وفكري وعسكري، وعادوا تعليم العربية بشتى الوسائل في البلدان المغربية والشامية والمصرية وبلاد الرافدين وغيرها، وصاحب هذه الحملات موجات استشراقية لأغراض مشبوهة، وتبعهم في دعواتهم أناس من أبناء جلدتنا فصاروا يرددون مطالب الأعداء لإبعاد العرب عن العربية، فدعوا إلى أمور منها: 1- الشعر الحر. 2- وإحياء اللهجات العامية. 3- وتغيير الرسم القرآني. 4- وتغيير الأرقام العربية. 5- وإشاعة المولَّد من الألفاظ في وسائل الإعلام. 6- وتنزيل لغة الجرائد في مدونات أهل الإسلام. 7- وتشييد الحواجز عن كثب المواد للسان العرب. قال الشيخ بكر أبو زيد معقبا: والحمد لله إذ فلَّت جموعها المجامع العربية اللغوية الناصحون في هذه الأمة استمرارا لمعجزة حفظ التنزيل بالحفظ للسان الترتيل، اللسان العربي المبين. وحفظ بيانه بسنة نبية الكريم صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"[35] المراجع[1] اللغة العربية بين القاعدة والمثال/49-50.[2] اللغة العربية بين القاعدة والمثال/51-52.[3] نحو عربية ميسرة/42-51، وعنه اللغة العربية بين القاعدة والمثال /53-56.[4] أصول ابن مفلح /119.[5] روضة الناظر /172.[6] شرح مختصر الروضة 3/503.[7] إحكام الأحكام 1/28.[8] الإحكام للآمدي 1/74.[9] رواه البخاري(4476) ومسلم (193،194).[10] التحبير 2/698.[11] التحبير 2/699.[12] العدة 1/190-191.[13] التمهيد 1/73-74.[14] التقريب 1/120.[15] البرهان /80.[16] منتهى الوصول والأمل /28.[17] الإبهاج 1/199.[18] جمع الجوامع 2/271.[19] عبقرية اللغة العربية/8.[20] فقه اللغة /107-108.[21] المزهر 1/221، فقه اللغة /107 وعنهم خصائص القرآن /61.[22] النظرات 2/247.[23] المزهر 1/221 وعنه خصائص القرآن /60.وقريب منه ما في لغتنا والحياة /48.[24] دراسات في العربية لمحمد الخضر حسين /128، وعنه خصائص القرآن /62.[25] المزهر 1/221 وعنه خصائص القرآن /62.[26] إعجاز القرآن /80. [27] مختصر السيرة للشيخ محمد بن عبدالوهاب /102.[28] سيرة ابن هشام 1/294.[29] إعجاز القرآن /166.[30] النشر لابن الجوزي 1/7، عن اللغة العربية والتعريب /25.[31] مقدمة ابن خلدون /339.[32] دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية/62،66.[33] الشعوبية هي تفضيل الجنس الأعجمي على الجنس العربي.[34] المقدمة /676.[35] التعالم وأثره على الفكر والكتاب /63. |