لقد كثر، في الآونة الأخيرة، كلام مسموع وكلام مكتوب عن لغة القرآن، والاقتباسات فيها من خارج اللغة العربية، فهناك من خرج ببحوث لغوية تفيد بأن لغة القرآن ليست عربية صرفة، بل إنها اقتباسات من السريانية (الآرامية) الصرفة.
وللاستدلال بهذه النتيجة يعرضون المتشابهات من المرادفات بين العربية والسريانية، ونرى أن هذا الجهد، إذا كان جهدًا فكريًا علميًا بحتًا، فإنه يَصْب في مجرى حرية الفكر والبحث، وهكذا فكر، وكأي فكر حر، يمر عبر قنوات النقد المنهجي، والنقد بحد ذاته فكر حر يترصد لفكر حر آخر ليتحاور معه في تفاصيل تختلف فيها الرؤى بين المؤلف والناقد.
أما إذا كان وراء جهد الفكر هدفًا يتخطى حرية الفكر الى دائرة التشكيك بأصالة لغة النص بغية إخراج فكر النص من نبعه الثقافي والتاريخي والجغرافي، فنحن أمام مناكفة عقائدية ليس لها علاقة بحرية الفكر والبحث، وهكذا جهد ليس أهلًا للنقد.
إن موضوع اللغة العربية ولغة القرآن، وعلاقة العربية بالسريانية والآرامية، أمر طبيعي من المنظور التاريخي، وخاصة تاريخ تطور اللغات وتشعباتها، وتاريخ اللغات السامية... عندما يتم الحديث عن ان القرآن متأثر وبه آثار سريانية وآرامية، فليس في الامر استغراب ولا حالة غير طبيعية، ولا يعني هذا أن مصدر القرآن هو اللغة السريانية أو الآرامية، أو أن نبع القرآن، كفكر وعقيدة، من خارج دائرة مكة والمدينة، وللتنبيه والتنويه بهذا الأمر، فإن علاقة القرآن بالتوراة والإنجيل، وهي في أكثرها علاقة نقدية، لا تخرج لغة القرآن من دائرتها الثقافية - الجغرافية، فهذه اللغة، العربية القرشية، هي المخزون اللغوي الذي رسمت من مرادفاته لغة القرآن.
أولًا وقبل كل شيء فإن اللغات العبرية والآرامية (السريانية) والعربية والأثيوبية كلها تنتمي الى أصل واحد وهو الكنعانية.
وقد عرفت اللغة الكنعانية وتفرعاتها باللغات السامية.. هناك تقارب كبير في المفردات بين هذه اللغات، فكثير من الكلمات في اللغة العربية تتقاطع مع اللغات السامية الأخرى التي تتفرع من اللغة الكنعانية الأم.
فلا غرابة إذًا أن نجد كلمات عربية في القرآن تتقاطع مع العبرية والآرامية، لأن هذه اللغات هي أخوات لأم واحدة وهي الكنعانية... وبالنسبة لمصطلح آرامي وسرياني، فإنهما يعنيان شيئًا واحدًا... ما قبل عهد انفتاح اليونان على منطقة الشام، كانت سوريا تعرف بآرام، وبالتالي اللغة الآرامية، واليونانيون، مع فتوحات الإسكندر الأكبر، هم الذين غيروا الاسم الى سريان او سوريا، وبالتالي جاء مسمى السريان.
المنطقة العربية في عهد الرسول كانت تختلط فيها الكلمات حسب الموقع، فالمناطق القريبة من الشام كان أهلها يستخدمون كلمات عربية كثيرة تتقاطع مع العبرية والآرامية، وكان الرسول ينتقل بين الشام واليمن، وكان على اطلاع باللهجات العربية المختلفة، وتلك اللهجات كانت تتميز بمصطلحات تكثر فيها الآرامية والعبرية، لأن جذور تلك الكلمات واحدة، ومازالت هذه التقاطعات والمتشابهات موجودة في عصرنا الحاضر.
الغريب في الأمر أن هؤلاء الباحثين يركزون على التقاطع بين العربية والآرامية في القرآن، ولكنهم لا يذكرون شيئًا عن التقاطع مع اللغة العبرية، وهي كثيرة.
إن موضوع القرآن وتضمنه كلمات آرامية يجب أن ننظر اليه بحذر وروية وبقدر من الشك، لأن هناك من يريد أن يبلغ رسالة بأن الرسول استقى موضوع القرآن، نصًا و عقيدة و تشريعًا، من قسيس مسيحي في الشام، وهذا الأمر لا يستقيم إذا ما قارنا الكتب السماوية الثلاثة، ففي كل كتاب لغة وثقافة، التوراة تشع منه ثقافة مختلفة عن ثقافة الإنجيل والقرآن، وكذلك الإنجيل نستخلص من نصوصه السردية لحياة المسيح وأعماله ثقافة مختلفة عن ثقافة القرآن والتوراة.
وهذا الاختلاف الثقافي يضع مفردات اللغة في درجة ثانوية أمام ثقافة النص، فأصالة النص لا نستدل عليها باللغة وحدها بل الثقافة هي الأساس للاستدلال، وثقافة القرآن هي ثقافة عربية أصيلة من نبع الجزيرة العربية في شطر الحجاز وامتداد المدن والقرى بين مكة والمدينة.
عندما تقرأ نصوصًا آرامية وعبرية فإنك تتفاجأ بوجود كلمات في هاتين اللغتين قريبة جدًا من العربية، حتى أن بعضها متساوية في الحروف ومتشابهة بالنطق.
إن اللغات السامية كانت معروفة عند العرب، فقد ذكر الخليل بن أحمد في كتابه «العين» العلاقة بين العربية والكنعانية، فقال: «وكنعان بن سام بن نوح، ينسب إليه الكنعانيون، وكانوا يتكلمون بلغة تضارع العربية»، كما ذكر ابن حزم الأندلسي، العلاقة بين العربية والعبرية و السريانية، فقال في كتابه «الأحكام في أصول الأحكام»: «من تَدَبَّرَ العربية والعبرانية والسريانية، أيقن أن اختلافها، إنما هو من تبديل ألفاظ من الناس على طول الازمان، واختلاف البلدان، ومجاورة الأمم، وأنها لغة واحدة في الأصل». كذلك المستشرقون لهم دراسات و بحوث تكشف عن العلاقة بين العربية والعبرية والسريانية، وعلى رأسهم المستشرق الألماني كارل بروكلمان صاحب كتاب «فقه اللغات السامية». لننظر الى موضوع وجود كلمات آرامية في القرآن من منظور آخر، وهو لنقرأ التوراة العبرية قراءة متمعنة، فإننا نجد فيها كلمات عربية صرفة مثل كلمة «أرض» و«مهر»، فهل هذا يعني أن التوراة متأثر باللغة العربية، أو أن العربية هي المصدر اللغوي للتوراة، رغم أن نصوص التوراة تسبق تشكل اللغة العربية بصيغتها المتكاملة اليوم بمئات السنين.
كذلك اذا نظرنا الى التوراة العبرية والأناجيل الآرامية فإننا نجد فيهما كلمات عربية وأخرى قريبة من العربية، وهذا لا يعني قطعيًا تأثر التوراة والأناجيل باللغة العربية، ولا يعني أن اللغة العربية هي مصدر نصوص التوراة العبرية و الأناجيل الآرامية.
من وجهة نظري الخاصة أرى أن موضوع تأثر القرآن باللغة السريانية فيه شطط عن النهج العلمي ويعبر من جهة عن نقص في المعرفة بتاريخ اللغات السامية وتداخل المفردات بينها والعلاقة التاريخية بينها، ومن جهة أخرى قد يعبر عن نية غير أمينة تمس أصالة اللغة العربية وثقافتها كمصدر رئيسي للنصوص القرآنية.
بالنتيجة، القرآن كتاب عربي صرف، وليس فيه لا اقتباسات ولا نقل من نصوص آرامية او عبرية.
القرآن مكتوب بلغة عربية صرفة، والتوراة مكتوب بلغة عبرية صرفة، وهناك نصوص آرامية صرفة للأناجيل، لأن الأناجيل التي نعرفها كتبت في الأصل باللغة اليونانية العامية، والمعروفة بلغة «كوإينه - Koine»، وليس اليونانية الكلاسيكية.
والأناجيل، بلغاتها المختلفة، المعتمدة اليوم هي ترجمات من اللغة اليونانية العامية، ورغم أن الإنجيل كتب باللغة اليونانية العامية إلّا أن ثقافة الإنجيل هي ثقافة أرض كنعان وأهل كنعان، آي الشام.
ولإيضاح أهمية الثقافة في النص بالعلاقة مع اللغة، فإن للقرآن ترجمات بلغات مختلفة، فمثلًا القرآن المترجم الى اللغة الفرنسية، هو قرآن بلغة فرنسية، وهذه اللغة الغريبة على العرب والعربية تحمل ثقافة عربية، ثقافة عمرها تربوا على الألف وأربعمائة عام، ولا علاقة لهذا النص الفرنسي للقرآن بالثقافة الفرنسية.