تحاول هذه المقالة المحكَّمة والموثَّقة توثيقًا منهجيًّا وعلميًّا - أن تَسْتَكنهَ غورَ العلائق اللُّغوية ودلالتها التربوية، الواردة في آيات الإحسان بالوالدين والبر لهما في القرآن الكريم، فتجد فيها أسرارًا غاية في العمق الدلالي، ودلائلَ بديعة في النمذجة التربوية، وقيمًا عالية في استثمار مفاهيم الأبوة الحقة.
لذلك؛ فقد قال تعالى:
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة: 83].
﴿ لَا تَعْبُدُونَ ﴾، قال الكسائي وسيبويه: متعلِّق بِقَسَم، والتقدير: وإذ استحلفناهم والله لا تعبدون.
قرن الله تعالى طاعة الوالدين والإحسان إليهما بعبادته؛ مبالغةً في الحفاظ على هذا الحق، فالنشأةُ الأولى من عند الله عز وجل، والنشأةُ الثانية - التربية - من جهة الوالدين؛ لذا قال سبحانه وتعالى:
﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 24]
، فواجب الوالدين تقديمُ مزيدِ عناية وتوجيه وتربية وتقويم لسلوك الطفل وتوجيهه واستقامته؛ كي يطمئن على ولده أن ينشأ على التوحيد ويموت على التوحيد، فهذا يعقوب عليه السلام لا يرضى أن يُغادِر الدنيا إلا بعد الاطمئنان على وجهة وعقيدة بَنِيه؛
﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 133].
وقد جاءَتِ الوصيةُ بهذا اللفظ
﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾
في القرآن الكريم أربع مرات مقرونةً بعبادة الله تعالى، وجاءَتْ مجرَّدة من الاقتران بعبادة الله تعالى مرة واحدة في القرآن الكريم، لكن مع ضمير الغائب
﴿بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا﴾ [الأحقاف: 15].
كما جاءت الوصية بالوالدين مرَّة واحدة كذلك مع ضمير الغائب، لكن بلفظ حسنًا، وذلك في قوله تعالى:
﴿بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [العنكبوت: 8].
وبعد البحث والنظر لُوحِظ أن الوصية للوالدين جاءت كلُّها مقرونةً بحرف الباء ﴿ بِالْوَالِدَيْنِ ﴾، ولم يذكر الاقتران في القرآن الكريم بحرف (إلى الوالدين)، كما هو الحال مع غير الوالدين؛ حيث ورد مرة واحدة عن قارون
﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [القصص: 77]
، بينما يأتي ارتبطًا بالباء "كالوالدين" في حق يوسف عليه السلام:
﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾ [يوسف: 100].
من الملاحظات اللُّغوية التركيبية الداعمة لمفاهيم التربية في القرآن الكريم:
لعل في اختيار حرفِ الجر الباء في الحديث عن الإحسان بالوالدين - أسبابًا دلالية تربوية خاصة، أرادها الله تعالى أن تكون سِمَة خاصة من سمات العلائق الأبوية، وطرائق متميِّزة من التعاملات التربوية الخلقية بين الأبناء والوالدين؛ تكريمًا لهما، وتقديرًا لجهودهما، في خَلْق حالة من التوازن العادلة بين الأبناء تربويًّا ومسلكيًّا.
أ- إن حرف الباء عندما اقترن بالوالدين مطلقًا في كل الآيات مقرونًا بعبادة الله تعالى، وبلفظ "إحسانًا" - يُوحِي إلى أن الأمر بالإحسان إلى الوالدين ليس مجرد إحسان عابر، ينتهي بزمن معين ومكان معين، بل يكشف عن مزيد من العناية والاهتمام والمتابعة والمصاحبة الدائمة، فكأنَّ الله تعالى يريد أن يقول: يا مَن عبدتَني وأحسنتَ عبادتي، أحسِن بالوالدين إحسانًا، ولا تجعَلْهم يغيبون عنك، لا تُقْصِهم عنك، لازِمْهما في كل الأحوال حتى في الكِبَر والعجز، و﴿
﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ﴾ [الإسراء: 23]
، فالأصل والصواب أن يكونا عندك بجانبك قريبين منك، فلا عذر لك في بُعْدك عنهما مهما كانت الظروف.
ب- ولو جاء الأمر بالإحسان للوالدين بحرف (إلى)، لفهم أن الإحسان يتمُّ بأي طريقة لهما، فقد ترسل إليهما هدية أو مساعدة مع أي إنسان، ولا يشترط أن تقدِّمها إليهم بيدك، فأنت بهذه الطريقة تعدُّ محسنًا، قد تودعهم سجن العَجَزة، وتمر بهما، وتقدِّم إليهما هدايا وعطايا، فتكون محسنًا إليهما، لا محسنًا بهما، لنتأمَّل قوله تعالى عن يوسف عليه السلام:
﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾ [يوسف: 100]
، كيف يكشف النص عن العناية الفائقة والرعاية الحانية بيوسف، وكأن يوسف عليه السلام لم يَدَعْه الخالق ولم يَقْلِهِ من لحظة إلقائه بالبئر، فالله تعالى أحسنَ به وهو في البئر، وكذلك وهو في السجن، وإحسانه تعالى بيوسف عليه السلام وهو في البئر أعظم منه وهو في السجن، فإلقاؤه في البئر يعني الموت؛ حيث الوحدة، والضعف، والوحشة، والصغر، على خلاف حالة السجن، ولكن يوسف عليه السلام لم يذكر إخراجه من البئر، مع أنه أهمُّ من إخراجه من السجن؛ كيلا يحرج إخوانه، ما هذا الخلق والكرم؟! إنه يذكِّر بموقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه، يعذَّب ويُطرد، ويقول:
((اللهم اغفِرْ لقومي؛ فإنهم لا يعلمون))، ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
لم ينسَ يوسفُ عليه السلام فضلَ الله تعالى وإحسانه به، فحافَظ عليه وتسَرْبَل به يومَ أن نصبَتْ له امرأةُ العزيز شِراك المعصية، وأطلقت عليه رصاصةَ
﴿هَيْتَ لَكَ﴾ [يوسف: 23]
، فردَّها بتُرْسِ
﴿مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ [يوسف: 23]
، هذا خلقُ يوسف عليه السلام، الذي كشف عن استحقاقِ العناية والرعاية الخاصة من ربه تعالى:
﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي﴾
، في حين نلاحظ فقدانَ حرف الباء مع صنف متكبِّر خبيث، إنه قارون الذي قيل له:
﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [القصص: 77]
، فالأصل أن يُقابل الإحسان بالإحسان، ولكن الكِبْر منعه ودفعه إلى قوله:
﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص: 78]
، فكانت النتيجة:
﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾ [القصص: 81]
، فالإحسان بالوالدين هو المطلوب في كل الأحوال، يعني العناية المطلقة؛ يعني أنهما عنده يرعاهما، يعطف عليهما، لا يفارقهما،
﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا﴾ [الإسراء: 23].
ج- ولو جاءت الآيات بصيغة (وإلى الوالدين إحسانًا)، لفهم من السياق أن المطلوب هو تقديم الإحسان إليهما بأي طريقة، كمَن يقذف بوالديه في ملجأ العجزة، ثم يُرسِل إليهما النفقة والملبس والمأكل، سواء قدَّمها بنفسه بزيارته لهما، أو أرسلها إليهما مع غيره، فهذا الابن بهذا التصرُّف يقال عنه بأنه محسن إلى والديه، لا محسن بوالديه.
بقيت هنا مسألة، وهي مقارنة آيات ثلاث مجرَّدة من الاقتران بطاعة الله تعالى، مع الآيات المقترنة ضمن جدول؛ كالآتي:
1- ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة: 83].
1- ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا﴾ [الأحقاف: 15]
2- ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [النساء: 36].
2- ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [العنكبوت: 8].
1- ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [البقرة: 83].
2- ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [النساء: 36].
3- ﴿ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الأنعام: 151].
4- ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23].
1- ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ﴾ [الأحقاف: 15]
2- ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ﴾ [العنكبوت: 8].
3- ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾ [لقمان: 14].
• أنها جاءت مقترنة بحرف الباء.
• جيء بلفظ الإحسان موحدًا فيها.
يلاحظ أن المخاطَب هنا هم المؤمنون، والوصية الإلهية للمؤمن بالإحسان، وإن كانت بصيغة الأمر، إلا أنها تتضمن معنى الوصف، فالأصل أنه لا يبرُّ ولا يُحسِن بالوالدين الإحسانَ الكامل إلا المؤمنون.
ولنتأمَّل كيف انحرفتِ الفطرة عند الإنسان الغربي، كيف يُلقِي والديه في ملجأ العجزة، ولا يعرفهما إلا في المناسبات، بإرسال باقةِ ورد إليهما، في حين يخصص لكلبه في بيته جناحًا خاصًّا وفخمًا، يجعل اتِّصاله وعَلاقته بكلبه أقوى من اتصاله بوالديه.
أما القائمة الثانية، فقد تميزت عن الأولى بما يأتي:
• تجرُّدها من الاقتران بعبادة الله تعالى.
• ظهور لفظ (الإنسان) معرَّفًا في الآيات، ولفظ (الإنسان) بعد النظر والتأمل في الآيات التي ورد فيها، يلاحظ أنه لم يُذكر في آية من آيات القرآن الكريم إلا مذمومًا أو مَلُومًا؛ مثال ذلك قوله تعالى:
﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ [عبس: 17]
، وقوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ [الانفطار: 6]،
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ [المعارج: 19].
• مجيء ضمير الغائب في الآيات الثلاث.
فقد تبين في هذه المقالة أن دائرة عَلاقة الأبوة ومفاهيم الإحسان الدائمة - التي ينبغي أن تصاحب الآباء - تستمرُّ استمرارَ حضور واستمرار غَيبة؛ لذلك كثر مجيء الضمير الغائب في آيات الإحسان بالوالدين، غير المقترنة بالتوحيد، لأجل أن تضمن الراعية والعناية والمصاحبة.
ونلحظ مما سبق تبيانُه أن الآيات الثلاث التي ورد فيها ذكرُ الإنسان - تُخاطب في الإنسان إنسانيَّتَه التي ينبغي أن تدفعَه إلى الإحسان بوالديه، حتى لو كان الأب كافرًا، فهو مكلَّف بحكم الأصل والفطرة أن يُحسِن إليهما، فهما والداه، كذلك يجب على الإنسان - سواء أكان مؤمنًا أم كافرًا - أن يبرَّ والديه ويحسن إليهما حتى لو كانا كافرينِ مُشركينِ.