إن الحديث عن اللغة العربية والتقدُّم العلمي والتقني في الوطن العربي يحمل في طياته السؤال التالي: هل تصلح اللغة العربية التي كانت وعاء لحضارة زاهية خلال قرون عدة في الماضي، أن تكون وعاءً لحَضارة أخرى هي الحضارة المعاصرة التي تتميز بالتقدُّم العلمي والتفاني؟
وبعبارة أخرى: هل تستطيع اللغة العربية أن تعبر عن معانٍ ومفاهيم وأعيان ومُستحدَثات لم يَبتكرها أو يضعها أهلها العرب أم أنها عاجزة عن ذلك، وعليها بالتالي أن تنحسر وتتراجع لتترك للغة أخرى أن تكون لغة العلم والتقانة في الوطن العربي؟[1]
وقبل الإجابة على هذا السؤال أرى لزامًا أن نبرز عددًا من الحقائق التي ستُمكِّننا من الوصول إلى الإجابة السديدة.
والحقيقة الأولى: إن اللغة العربية عاشت عصورًا من القوة والرقي كانت مواكبة للتقدم العلمي والاجتماعي وخصوصًا في الأندلس، لذلك أخذت أوروبا كثيرًا من ألفاظ العلوم والتجارة والبحارة والتعامل الاجتماعي عن العرب؛ تقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة: "إن في لغتنا كلمات عربية عديدة، وإننا لندين - والتاريخ شاهد على ذلك - في كثير من أسباب الحياة الحاضرة للعرب، وكم أخذنا عنهم من حاجات وأشياء زيَّنت حياتنا بزخرفة محببة إلى النفوس، وألقت أضواءً باهرة جميلة على عالمنا الرتيب"[2].
والحقيقة الثانية: إن هناك آلافًا بل عشرات من المخترعات الأجنبية، وقطعها وأجزائها التي تتركَّب منها، ولم تجد لها حتى الآن البديل العربي أو البديل المعرب، وظل تعاملنا معها بأسمائها في لغتها، ولكن ذلك ليس عيبًا في اللغة العربية، ولكنه جاء نتيجة التخلُّف التقني للشعوب العربية والإسلامية، فمن حق المخترعين أن يُطلقوا التسميات التي يرونها لمخترعاتهم، وما على المنتفعين بهذه المخترعات إلا أن يأخذوا المسمى باسمه، هذا هو الأصل إلا إذا قدروا على طرح البديل اللغوي، أو البديل التعريبي الذي ينشئ توفيقًا بنيويًّا بين الاسم الأجنبي والشكل أو الوزن العربي، وإلا فليس هناك إلا اقتباس المصطلح الأجنبي الأصلي[3]، والمعروف "أن المفردات التي تقتبسها لغة ما عن غيرها من اللغات يتصل معظمها بأمور قد اختص بها أهل تلك اللغات أو برزوا فيها، أو امتازوا بإنتاجها أو كثرة استخدامها، وأخذها منهم، أو اعتمد عليهم فيها أهل هذه اللغة[4].
ومعظم ما انتقل إلى العربية من المفردات الفارسية واليونانية يتَّصل بنواحٍ مادية أو فِكرية امتاز بها الفرس واليونان، ويتألف معظم المفردات التي أخذتها الإنجليزية عن النورماندية من كلمات دالة على معانٍ كلية وألفاظ تتَّصل بشؤون المائدة والطهو والطعام؛ وذلك لأن النورمانديين كانوا يَفوقون الإنجليز كثيرًا في هاتَين الناحيتين اللتين تمثل إحداهما مظهرًا راقيًا من مظاهر التفكير العام، وتمثل ثانيتهما ناحيةً من نواحي الترف الاجتماعي[5].
والحقيقة الثالثة: إن اللغة العربية - على مدى العصور، وابتداء من القرن الثاني بخاصة - لم تَعِش بمعزل عن اللغات الأخرى، بل عاشت في حالة "تفاعُل" دائم أخذًا وعطاءً، وخصوصًا بالنسبة للمُستجدات والمُخترعات؛ فقد كانت غالبًا تُنقل بأسمائها، أو ينال هذه الأسماء شيء من التغيير تبعًا لمواضعات اللغة الناقلة، قدرة اللغة العربية على الوضع والتدخيل والتعريب محسومة تاريخيًّا، والمقام لا يتسع لتفصيل هذه الحقيقة[6].
والحقيقة الأخيرة: إن المجامع اللغوية العربية تَبذل مجهودات طيبة في التعامل مع المصطلحات الأجنبية تدخيلاً أو تعريبًا، ولكن انتشار هذه الأعمال لم يكن على مستوى الجهود المبذولة
[1] شحادة الخوري: "اللغة العربية والتقدم والتفاني في الوطن العربي" (ص: 29) (دراسته المنشورة في مجلة التعريب)، ويلاحظ أن الكاتب يستخدم كلمة التقانة مل كلمة التقنية وهي الأشهر.
[2] شمس العرب تستطع على الغرب (ص: 20)، وانظر في الكتاب بعض الأسماء العربية التي اقترضتها أوروبا (ص: 17 - 19)، وانظر جدولاً كاملاً (552 - 559) يضم الكلمات الألمانية المأخوذة عن العربية والفارسية، وكلها تتعلق بالعلوم التجريبية والإنسانية والمأكولات وأدوات المعيشة، وارجع كذلك إلى الفصل القيِّم الذي عقده الدكتور علي حسني الخربوطلي بعنوان "الحضارة العربية أساس الحضارة الأوروبية" من (ص: 106) إلى (ص: 134) من كتاب: "العرب في أوروبا".
[3] التعريب يعني نقل اللفظ الأجنبي إلى العربية مع المحافظة على أصله ما أمكن ويؤخذ فيه بأقرب نطق إلى العربية؛ (مدكور: في اللغة والأدب (ص: 98)، ويحدث في الكلمة بعض التغييرات الشكلية لتوافق النطق أو الوزن العربي؛ (انظر عبدالصبور شاهين: العربية لغة العلوم والتقنية (ص: 314)، وهو يطلق كلمة (التدجيل) مقابلة للتعريب وتعني إدخال الكلمة الأجنبية في اللغة العربية دون أي تغيير (ص: 335)، وانظر: باب معرفة مذاهب العرب في استعمال الأعجمي من (ص: 54) إلى (ص: 58) من كتاب (المعرب) للجواليقي.
[4] د. علي عبدالواحد وفي: اللغة والمجتمع (ص: 22).
[5] وافي: السابق (ص: 23).
[6] انظر: د. كارم السيد غنيم: اللغة العربية والصحوة العلمية الحديثة: (ص: 10 - 24).