إن اللغة ملَكةٌ لسانية، ورابطة اجتماعية؛ بها نتفاعل ونتواصل؛ فهي فكرٌ ناطق، والتفكير لغةٌ صامتة، وحبل متين يشدُّ ذات بيننا، إنها أصوات كما وصفها الفقيه اللغوي "ابنُ جني"، ليست بأصوات وملفوظات فقط، بل لها مقصديتها، آصرة لها قوَّتُها في لمِّ الشمل وجمع الشتات، وكما يقول فيلسوف الألمان فيخته في حقها: "اللغة تجعل من الأمَّة الناطقة بها كلًّا متراصًّا خاضعًا لقوانين؛ إنها الرابطة الحقيقية بين عالمِ الأجسام وعالم الأذهان".
يعبِّر بها الأقوامُ والأمم عن أغراضهم وحاجياتهم، إنها الجسر بل القنطرة التي توصلنا إلى البعيد، والسراجُ الذي ينير سبيل التائه والضال، روحٌ ثانية تسري في الأجساد، ونور يدب في الخلايا ويجعل من الإنسان إنسانًا، يحيا ويتنفَّس على هذا الكون، مسدَّدَ الخطى، مدركًا للاتجاهات، ضالعًا ومضطلعًا بخطوط البداية وشريط خط النهاية.
لبسْتِ أثوابًا وحليًّا، وتعدَّدت في بطاقة هويتك المسمياتُ والأوصاف وحتى الجنسيات، كُنتِ ولا زلت وستظلِّين علمًا سرمديًّا يرفرف فوق الحضارات والثقافات؛ فهنالك نجدك في بلاد الغرب اعتليتِ المراتبَ الأولى في التصنيفات، وفُزت بجميع الكؤوس والألقاب، ففيك الإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها من اللغات الحية، وفي قارةِ ذوي العيون الضيقة نجدك هناك أيضًا، وقد تزينَت عيونك أيضًا بجمال عيونهم، وأما في البقعة الجغرافية السوداء لونًا، والبيضاءِ روحًا وجوهرًا، ففيك التعدُّد والتنوع الذي أغنى الكنز اللغويَّ بكل أنماطه، فما أن حلَّقنا ببساطٍ حريري أندلسي فوق الكون لمحْنا نورًا ساطعًا يكاد يسلب من العين نظرَها، ومن العقل صوابَه، ومن الجوارح حركيتَها؛ لمحنا اللغة عند العرب، إنها معجزة الله الكبرى في كتابه المجيد، وبحر في أحشائه الدرُّ كامن، فلتتفضلوا يا سادتي بسؤال الغواصين والمرتادين للبحار عن صدَفاتها.
أخذنا معولًا واسترسلنا في الحفر في تراب الجزيرة العربية وفي كل فلاة عربية، وجدنا بأن اللغة العربية أقدمُ وأعرق اللغات، جدة عجوز لا زالت تتمتع بخصائصها ومميزاتها من ألفاظ وتراكيب، وصرفٍ ونحو، وأدب وخيال، مع الاستطاعة في التعبير عن مدارك العلم المختلفة، لم تؤثِّر تجاعيد وجهها على جمالها الأخاذ، بل زادها بهاء ورونقًا وألقًا، أليست هذه بمعجزة يا سادتي؟
إنها الأم الرؤوم العطوف، تربِّي وتحضن مجموعةً من اللغات، أي التي نشأت في شبه جزيرة العرب، أو العربيات من حِميريةٍ وبابلية وآرامية وعِبرية وحبشية، أو الساميات في الاصطلاح الغربي كما صرَّح بها أبناء نوح الثلاثة: سام وحام ويافث، فكيف ينشأ ثلاثة إخوة في بيت واحد ويتكلَّمون ثلاث لغات؟ تالله إنها أمٌّ تمحو اليتم من الكون وتُزيله، فهي أمُّ مَن لا أم له.
فما قلناه ليس جامعًا مانعًا لهذه اللغة، بل هو دغدغات فقط لجسدٍ واقف أمدَ الدهور والأزمان، ومحاولةٌ لوضع وصف اختلج في الصدر وباح به اللسان.
أودُّ في الختام أن أدُلَّ قارئنا العزيزَ على بعض ما قيل في حق لغتنا العربية من أقوال لبعض العلماء الأجانب قبل العرب:
يقول الفرنسي إرنست رينان: "اللغة العربية بدأت فجأة على غاية الكمال، وهذا أغرَبُ ما وقع في تاريخ البشر؛ فليس لها طفولة ولا شيخوخة ".
وفي نفس السياق يقول الألماني فريتاغ: "اللغة العربية أغنى لغات العالم".
ولا ننسَ قول وليم ورك: "إن للعربية لينًا ومرونةً يمكِّنانها من التكيف وفقًا لمقتضيات العصر".
ونجد مصطفى صادق الرافعي يقول في حقها: "إنما القرآن جنسيةٌ لغوية تجمع أطراف النسبة إلى العربية، فلا يزال أهله مستعربين به، متميزين بهذه الجنسيةِ حقيقةً أو حكمًا".