تتفق هذه المقالة مع ما ذهبت إليه مينيكه شيبر [1]Mineke Schipper من تأكيد علي أن الإنسانية تتكون من أقرباء لم يهتموا أبدا بأن يلتقوا، وأن المعرفة المشتركة هي مفتاح مهم للتعايش السلمي علي كل المستويات، فالنظر إلي ما نشترك فيه كآدميين مثمر تماما، وهو أكثر إلحاحا اليوم عن أي وقت مضي.
هذه نقطة انطلاق تتفوق كثيرا علي الإصرار الدائم علي "نحن" في مقابل "هم"، علي من ينتمي في مقابل من لا ينتمي، وفي أسوا الأحوال، إسقاط محاور خطيرة للشر "بيننا" و "بينهم"[2] "Us" and "them".
فاللغة لها خاصية إنسانية Feature of human ترتبط بالإنسان دون الحيوان؛ ولذلك عدها "وليام ويتني" WilliamWhitney مؤسسة اجتماعية [3]Social institutions، واللغة كائن حي، وكلّما اتسعت حضارة أمة، نهضت لغتها وسمت أساليبها، وتعددت فيها فنون القول، ودخلت فيها ألفاظ جديدة عن طريق الوضع، والاشتقاق والاقتباس أو الاقتراض للتعبير عن المسميات والأفكار الجديدة، فتحيا هذه اللغة وتتطور عبر الزمن وتتلاقح مع غيرها من اللغات[4].
الناظر إلى ألوان الطيف Spectrum التي تخرج من منشور زجاجي أو تلك التي ترى في قوس قزح Rainbow لا يلاحظ نقاط فصل بين الأوان المختلفة، بل يرى تدرجا متصلا من الألوان، وهناك ثلاثة أسس مهمة لتقسيم حقل الأوان: هي تدرج اللون، (أحمر – برتقالي – أصفر) درجة التشبع، ولكن كل لغة تقسم أيضا كل حيز متدرج من الألوان تقسيما مختلفا، فبعضها تميزه بألفاظ وبعضها لا تميزه.
ولا أحد منّا ينكر أنّ اللغات تتداخل وتتلاقح كلما اتصلت إحداها بالأخرى بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وأنّ أية لغة من اللغات في العالم كما تؤثر في غيرها، فإنها أيضا تتأثر، وإنّه "من المتعذر أن تظل لغة بمأمن من الاحتكاك بلغة أخرى"[5].
ومبدأ الاقتراض اللغوي Linguistic borrowing، وظاهرتي التأثير والتأثر في لغات البشر، لا غنى عنهما إذا ما أرادت الشعوب أن تتعارف وتتآلف، وتتعاون فيما بينها كما قال تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [6] بل لا مهرب منهما لحاجة بني البشر إلى بعضهم البعض، وعدم غنى الإنسان عن أخيه الإنسان مهما ارتقى وتطور.
ويرى عالم اللغة الفرنسى جوزيف فندريس Vendryes أن تطور اللغة مستمر في معزل عن كلّ تأثير خارجي، يعدّ أمراً مثالياً لا يكاد يتحقق في أية لغة، بل على العكس من ذلك، فإنّ الأثر الذي يقع على لغة ما من لغات مجاورة لها، كثيرا ما يؤدي دورا هاما في التطور اللغوي، ذلك لأنّ احتكاك اللغات ضرورة تاريخية، واحتكاكها يؤدي حتما إلى تداخلها[7].
تنتمي اللغة العربية إلى مجموعة اللغات السامية [8]Semitic languages، التي تضم أيضاً الكنعانية والفينيقية والعبرية والآرامية والنبطية والبابلية والسريانية والحبشية، ولقد اندثرت غالبية تلك اللغات ولم يبق منها سوى آثار ورسوم على الأحجار والجلود، أما اللغة العربية فعاشت وبقيت ولا تزال تنتشر، بل وتتوسع، في بقاع من الأرض عديدة[9].
ويقرر الدكتور علي عبد الواحد وافي أن من أهم ما تمتاز به العربية أنها أوسع أخواتها السامية ثروة في أصول الكلمات والمفردات. فهي تشتمل على جميع الأصول التي تشتمل عليها أخواتها السامية أو على معظمها، وتزيد عليها بأصول كثيرة احتفظت بها من اللسان السامي الأول، وأنه تجمع فيها من المفردات في مختلف أنواع الكلمة اسمها وفعلها وحرفها، ومن المترادفات في الأسماء والصفات والأفعال... ما لم يجتمع مثله للغة سامية أخرى، بل ما يندر وجود مثله في لغة من لغات العالم [10].
وعاشت اللغة العربية فترة طويلة من عمر البشرية بوصفها لغة رسمية عامة linguafranca لشعوب وأجناس شتى، وشملت كل مناحي الحياة اليومية، فكانت لغة الحياة الخاصة والثقافة العامة، ولم يكن لمدعي فكرٍ ومعرفةٍ بدٌ من أن يتقنها. والعربية لغة كاملة، خرجت إلى الدنيا - خارج الجزيرة العربية- مكتملة النمو بنحوها وصرفها وبلاغتها وكتابها أيضاً، فغلبت على غيرها من اللغات لأنها لغة القرآن الكريم أولاً ثم بفضائلها الذاتية ثانياً[11]، وجعل المسلمون من حقبة حكمهم بوتقة انصهار ذابت واختلطت فيها قوميات وملل ولغات شتى، حملوا فيها راية القيادة في مضمار الحضارة البشرية، دونما إدراكٍ منهم بأنهم قد أعدوا ترياق النجاة للأوروبيين فيما هو آت من عصر نهضتهم[12].
يقول المستشرق إرنست رينان [13]Ernest Renan في كتابه تاريخ اللغات السامية Histoire générale des languessémitiques: "إن انتشار اللغة العربية ليعتبر من أغرب ما وقع في تاريخ البشر كما يعتبر من أصعب الأمور التي استعصى حلها؛ فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ ذي بدء، فبدت فجأة على غاية الكمال سلسة غاية السلاسة، غنية أي غنى،... وإن اللغة العربية - ولا جدال - قد عمت أجزاء كبرى من العالم".
وكان هناك كتاباً قد وضع في سنة 1938 م بعنوان:
">span >" وضعه أحد الباحثين الأمريكيين حصر فيه ما يزيد على مئة وأربعين لغة كان أهلها يكتبون تراثهم بالخط العربي قبل أن يعمل الاستعمار Colonization على تحويل هذا الخط إلى الخط اللاتيني [14].
ويقول جوستاف لوبون[15]Gustave Le Bon صاحب كتاب حضارة العرب La civilisation des Arabes:"كلما تعمق المرء في دراسة العربية تجلت له أمور جديدة، واتسعت أمامه الآفاق وثبت له أن القرون الوسطى لم تعرف الأمم القديمة إلا بواسطة العرب، وأن العرب هم الذين مدنوا أوروبا في المادة والعقل والخلق"[16].
ويقول ديفيد صمويل مرجليوث [17]Margoliouth الأستاذ بجامعة أوكسفورد "أن اللغة العربية لا تزال حية حياة حقيقية،وهى واحدة من ثلاث لغات استولت على سكان المعمورة استيلاء لم يحصل عليها غيرها، الانجليزية الاسبانية أختاها تخالف أختيها بأن زمان حدوثهما معروف ولا يزيد سنهما على قرون معدودة أما اللغة العربية فابتداؤها أقدم من كل تاريخ".
ويقول الأستاذ ماكس فانتاجوا Max Vintéjoux في كتابه "المعجزة العربية" emiracle arabe: "الحق أن مؤرخينا قد حاولوا جهدهم أن يجعلوا من العالم الغربي محورا للتاريخ مع العلم بأن كل مراقب يدرك أن الشرق الأدنى هو المحور الحقيقي لتاريخ القرون الوسطى، إن تأثير اللغة العربية Arabic influence قد شكل تفكيرنا بصورة كبيرة" [18].
وقد لاحظ ذلك فيلسوف الحضارة أزوالد شبنجلر [19]Oswald Spenglerفى كتابه الشهير "سقوط الغرب"Downfall of the Occident قائلا: " لقد لعبت العربية دوراً أساسيا كوسيلة لنشر المعارف،وآلية التفكير خلال المرحلة التاريخية التى بدأت حين احتكر العرب على حساب اليونان Greek والرومان Romans عن طريق الهند، ثم انتهت حين خسروها"[20].
أما الأمريكي (وليم ورل) فيقول: "إن اللغة العربية من اللين، والمرونة، ما يمكنها من التكيّف وفق مقتضيات هذا العصر، وهي لم تتقهقر فيما مضى أمام أية لغة أخرى، من اللغات التي احتكّت بها، وستحافظ على كيانها في المستقبل، كما حافظت عليه في الماضي[21].
وأشار الجاحظ[22] إلى عدد من خصائص العربية منها: سعة الألفاظ، ودقة الدلالة، وجودة الأمثال، والبديع فيقول: "والبديع مقصور على العرب ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة"[23].
ويقول ابن قتيبة[24]:" وإنما يعرف فضل القرآن من كثر نظره واتسع علمه وفهم مذاهب العرب وافتتانها في الأساليب، وما خص الله به لغتها دون جميع اللغات. فإنه ليس في جميع الأمم أمة أوتيت من العارضة، والبيان، واتساع المجال ما أوتيه العرب خصيصى من الله لما أرهصه في الرسول صلى الله عليه وسلم وأراده من إقامة الدليل على نبوته بالكتاب..." [25]
ويرى بعض اللغويين المحدثين أن اللغة العربية امتازت بحيوية نفاذة متأججة بحيث لم تنازل لغة أيام الفتوحات الإسلامية إلا ظفرت بها، ظفرت في العراق باللغتين الآرامية والسريانية، وفي إيران انتصرت على اللغة الفارسية وظفرت بها، وفي الشّام باللغتين السريانية واليونانية وفي مصر باللغتين القبطية واليونانية، وفي المغرب باللغتين البربرية واللاتينية، وفي الأندلس باللغة الإسبانية، وأهل كل هذه البلدان شرقاً وشمالاً وغرباً زايلت لغاتهم ألسنتهم وحلت مكانها العربية واتخذوها للتعبير عن مشاعرهم شعرا ونثرا وعن عقولهم وألبابهم فكرا وعلوماً وسياسية[26].