للتحدث عن اللغة العربية لابد من معرفة الأصل الذي انبثقت منه والجنس الذي تنتسب إليه.
ومن يدرس تكوين اللغات يجد أن الإنسان الأول كان يعيش بين الاذغال والكهوف لا تجمعه أي رابطة، ولا تؤلفه أي جماعة ولا يحسن أي لغة، إنما كان إذا أراد التعبير عن بعض خوالجه أو الإفصاح عن حاجياته صاح صيحات مبهمة تقليدا لأصوات الطبيعة وأشار إشارات تدل على التحبيذ أو المعارضة، ولا شك أن طبيعة النشوء والارتقاء أحاطت بالإنسان فاندرج في سلك الحضارة ورقي سلمها وأصبح بطبيعة الحال يحتاج إلى أشياء وأشياء كان في غنى عنها قبل تمدنه وأصبح مضطرا إلى لغة يعبر بها فاختلق ألفاظا ووضعها وأصطلح عليها لتكون هي الواسطة بينه وبين غيره.
وحيث أن الإنسان لم يستقر في مكان خاص في هذا العالم بل تعدد مستقره، وحيث أنه لم يكن متحدا تمام الإتحاد مع من جاروه نظرا لفطرته الأولى التي كانت تقترب من طبيعة الوحوش فقد نزح بعضه عن بعض وتعددت بسبب ذلك مواطنه واختلفت أوضاعه وتغيرت لهجاته وتعابيره فاختلفت بسبب ذلك اللغات العالمية.
وذهبت جماعة من علماء التاريخ إلى أن أصل الإنسان يرجع إلى آسيا ولذلك فهم يعتبرون جميع اللغات العالمية قد تسربت إلى العالم عن طريق آسيا ويرجعون هاته اللغات إلى أصول ثلاثة:
أولا - الأصل الآري نسبة إلى الأربين الذين كانوا يسكنون قديما آسيا الوسطى وقد تفرقت قبائل هذا الجنس في الهند وأوربا وتكونت منه اللغة الفارسية والهندية واللاتينية وما تفرع عنها.
ثانيا - الأصل الطوراني ويطلقه جغرافيو العرب على جنس كان يسكن جنوب باكستان ومنه تكونت اللغة التركية وما تفرع عنها.
ثالثا - الأصل السامي نسبة إلى سام بن نوح ومنه تكونت اللغة العربية. ونحن إذا ما أردنا أن نبحث عن التطورات التي لحقت هاته اللغة يجب أن نتساءل عن موقف العرب في التاريخ ودورهم في الحضارة العامة الجاهلي، وهو اصطلاح على العصر الذي عاشه العرب قبل الإسلام.
لقد تبين لنا في العرض السابق أن أصل اللغة العربية هو الأصل السامي ولكن هل بقيت هاته اللغة محدودة الألفاظ جامدة التراكيب محافظة على أصلها من غير أن يقع فيها أي تغيير؟
لا يمكن أن نجيب عن هذا السؤال إلا إذا علمنا أن اللغة لا تجمد إلا إذا جمد المتكلمون بها وأنها لا تقف في السير إلا إذا وقف واضعوها.
وحيث أننا نعلم أن العرب مذ كانوا وهو حركة دائبة، وأنهم منذ وجدوا وهو يعملون من أجل الحضارة الإنسانية فإننا نتيقن بأن لغة العرب لم تبق جامدة بل تغيرت إلا أننا نجد مؤرخي اللغة العربية يقولون:
«أن أقرب اللغات إلى الأصل السامي هي العربية ويعللون ذلك بأن العرب كانوا أهل بدو وأنهم لم يخالطوا غيرهم لذلك بقيت لغتهم سليمة من الاختلاط والتأثر بمن حولهم، ولكننا مع ذلك نرى أن هاته العلة لا تنطبق إلا على جزء من الجزيرة العربية وإلا فإن اللغة العربية قد اكتسبت من اللغات المجاورة لها ألفاظا متعددة كما أنها قد أثرت هي نفسها فيمن جاورها وهاته هي عادة الكون لابد من تأثر وتأثير بسبب الاختلاط.
ولتحليل ذلك يجب أن نعلم أن العرب كانوا يسكنون شبه الجزيرة العربية في الجنوب الغربي من آسيا وتحد شمالا بحدود الفرس والروم (على الاصطلاح التاريخي) وشرقا بالخليج الفارسي (العربي) وجنوبا بالمحيط الهندي وغربا بالبحر الأحمر وأنهم كانوا يسكنونها متفرقين، فكان في جنوبها العرب القحطانيون الذين ينسب إليهم الحميريون ملوك اليمن ويسمون بالعرب العاربة أي العرب الأصليين، وأما الشمال فكان يسكنه العرب العدنانيون الذين يرجع نسبهم إلى إسماعيل بن إبراهيم ويسمى هؤلاء بالعرب المستعربة: العربية إنما دخلت إليهم عن طريق المصاهرة وذلك أن إسماعيل لما أقبل على مكة تزوج بامرأة عربية من قبيلة جرهم وتكون من نسله هؤلاء وأصبحوا يتكلمون باللغة العربية وتكونت منهم قبائل شتى حتى أصبح لكل قبيلة لهجة خاصة ربما لا تفهمها القبيلة الأخرى.
وعلى حدود فارس والدولة البيزنطية تكونت دويلتان عربيتان هما دولة الغساسنة على حدود الروم ملكت الشام وسوريا ودولة اللخميين في العراق أسست سنة 240 ميلادية وانتهت بمقتل النعمان بن المنذر سنة 602م.
ولقد كان أصل رؤساء هذين الدولتين من الجنوب وكانت لكل منهما عوائد خاصة واتجاه سياسي خاص ولهجات خاصة.
ولا شك أن هذا الاختلاف في الإقامة كان من أعظم الأسباب في اختلاف اللهجات حتى أن أبا عمرو أبن العلاء أحد علماء اللغة في العصر الأموي حينما تحدث عن لغة الجنوب قال:.. ما لغة حمير بلغتنا ولا عربيتهم بعربيتنا.
هذا زيادة على ما دخل على اللغة العربية قبل الإسلام من كلمات من الدول المجاورة كالنبراس والسراح والأسطول والسفينة ونحو ذلك.
وإذا ما اندرجنا مع هذا البحث فإننا نصل إلى أن لهجات العرب كانت مختلفة جدا بحيث لا نستطيع أن نجعل اللغة في العصر الجاهلي من مقومات الوحدة العربية، ولكن هل يمكن أن يستمر العرب على تفرقتهم واختلاف لهجاتهم ولغتهم من غير أن يظهر فيهم من يعمل على جمع وحدتهم ولم شتاتهم وتهذيب هاته اللغة؟.
لا شك أن العرب لم يكونوا مختلفين تخلفا تاما ولم يكونوا بالصورة التي يصورهم بها أعداؤهم، ومن يدرس تاريخ اليمن في جنوب الجزيرة العربية ويطلع على ما كان في صغار وظفار وحضرموت من حضارة يحكم حينئذ على مكانة العرب في التاريخ.
وإذا علمنا أن الحميويين في جنوب جزيرة العرب قد فكروا في إنشاء السدود وفي استغلال الطبيعة لري أراضيهم ولاكتساب الثروة عن طريق العلم لا عن طريق الصدفة لزاد إعجابنا بالأمة العربية.
إلا أننا لسنا ندعى بهذا العرض أن حضارة العرب في العصر الجاهلي لم يصبها فتور، أو أنها كانت عامة، بل أن من سكان الجزيرة من كان يعيش على البداوة وأن من المتحضرين من العرب من ضعف بسبب المناورات التي كان يقوم بها الفرس والروم فقد كانت هاتان الدولتان تعملان على إيجاد التفرقة بين العرب ونرى كثيرا من الحروب العربية إنما كانت تأييدا لفارس أو انتقاما من الروم أو العكس، ولم يكن العرب يريدون الرضوخ لهؤلاء أو لهؤلاء إلا أنهم لم يجدوا زعيما يجمعهم على كلمة واحدة، فكنت ترى في الجنوب دولة وعلى حدود فارس دولة وعلى حدود الروم دولة، وفي وسط الجزيرة قبائل متنافرة لا تشعر إلا بالوحدة القبلية، وشعر العرب بخطورة الموقف وشعر البدو أولئك الذين يتنافرون بأن مصير العرب إلى فناء وانبثق من بين العرب خطباء وشعراء كانوا على دين النصرانية أو اليهودية وأصبحوا يوجهون الآراء إلى الألفة والاتحاد ولكنها كانت صيحات في واد، إلا أن الظروف الطبيعية هيأت الفرصة للعرب وائتلافهم واتحاد لغتهم وذلك أن عرب الجنوب كانوا يعيشون في رفاهية من العيش نظرا لما اشتهروا به من حضارة، إلا أن حربا عظيمة وقعت في الجنوب بسبب اعتناق أحد ملوك اليمن دين اليهودية وإكراهه سكان نجران المسيحيين على الابتعاد عن معتقداتهم وإتباعه في دينه الجديد، فلما أبوا قتل منهم عددا كبيرا وفر بعضهم إلى الدولة البيزنطية واستنجد بقيصر الروم جوستيان فأمر القيصر حليفه في الحبشة بغزو اليمن، واستولى الحبشيون عليها في القرن الخامس الميلادي واستبدوا بها إلى أن وجد زعيم عربي أسمه سيف بن ذي يزن فاستنجد بالفرس وأرجع اليمن من يد الأحباش، ولما كان الخلاف متجليا في الجنوب لم يتعهد الملوك الحاكمون سد مأرب الذي بناه العرب في القرن السادس وكان لانهياره أكبر الأثر في إتحاد العرب لان اليمنيين فر أكثرهم إلى الشمال وتفرقوا بين مكة ويترب، فانتقلت التجارة من اليمن إلى الشمال، وأصبحت مكة هي العاصمة التجارية المطلقة وأصبحت تنطلق منها القوافل التجارية إلى الشام وإلى ما بقي من أرض اليمن، وكانت هاته القوافل التجارية أكبر داع لتأليف العرب وانتشار لغتهم وتوحيدها وتهذيبها وذلك لتهافت العرب على الأسواق التجارية الموجودة قرب مكة كسوق عكاظ والمجنة وذي المجاز، وكان العرب حينما ينتهون من البيع والشراء ينشد شعراؤهم قصائد متعددة في الفخر ويجعلون ذلك وسيلة للدعاية وحيث أنهم كانوا في مكة وما حولها فإنهم كانوا يؤلفون تلك القصائد بلهجة قرشية حتى تنتشر بسرعة فأصبحت الظروف تعين على توحيد اللغة العربية.
ومما زاد لهجة قريش انتشارا وجود الأصنام – التي كان يعبدها جل العرب- بمكة فكانوا يقبلون علها ويتمسحون بها ويخاطبونها بلهجة قرشية صميمة فأصبحت هاته اللهجة في اللهجة السائدة في التجارة والأدب والدين.
وهكذا رأينا العرب قد توحدت لغتهم واتفقوا اتفاقا أوجدته الظروف على جعل لهجة قريش لغتهم العامة، ولكنهم كانوا مختلفين في الوجهات الفكرية والخلقية ولذلك كانوا في حاجة إلى من يوحد قلوبهم، فكان من حكمة الله أن أرسل فيهم رسولا منهم يدين الإسلام فحقق الوحدة للعرب ومكن اللغة العربية من الانتشار وطبعها بطابع الخلود ولا سيما حين انزل القرآن بهاته اللغة.
عزت اللغة العربية بنزول القرآن وكتب لها الخلود يوم اقترنت بالإسلام، ولم تجد أي لغة وسيلة من وسائل النشر مثل ما وجدت اللغة العربية وذلك لأنها ارتبطت بالدين الإسلامي وأصبحت لغة القرآن وحيث أن الإسلام انتشر بسرعة فائقة في جميع أنحاء العالم فإن اللغة العربية وجدت الطريق للانطلاق من شبه الجزية العربية إلى باقي أجزاء آسيا وإلى أوربا وإلى إفريقيا وإلى كثير من الأقاليم حتى أصبحت هي اللغة الرسمية حينذاك.
نزل القرآن بلهجة قريش إلا أنه سمح لبعض اللهجات أن تقرأه بلسانها فتعددت بسبب ذلك القراءات، فلما ولي عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين الخلافة قرر أبقاء لهجة قريش وإحراق جميع الصحف التي دونت القرآن بغيرها وكتب بذلك مصحفا وأرسل منه نسخا إلى الولايات العامة وأمر بأن لا يقرأ القرءان إلا بهاته اللهجة، وبذلك أصبح للغة العربية شبه وحدة وقلت الاختلافات والاتجاهات.
وإذا ما تحدثنا عن القرآن فأننا في الحقيقة نتحدث عن أعظم أثر خلفه الدين الإسلامي باللغة العربية يصور حياة العرب وعوائدهم ويدعوهم إلى الدين والاعتصام بحبل الله فأسمعه حين يقول:
«واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته أخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون» إل عمران أية 103.
تقدم لنا أذن أن العرب قد أتحدت لغتهم الأدبية وأنهم جعلوا اللهجة القرشية هي لغة الأدب والمفاخرات والمدح وأنهم كانوا في حاجة إلى من يوحدهم فكرا وروحا، فلما جاء النبي محمد عليه السلام كان أعظم شخصية أحيت العرب من رقدتهم ونفخت فيهم روح العزة وكانت لتعابير القرآن قوة توجيهية أخرجت اللغة العربية من نطاقها الضيق إلى مختلف المواضيع حتى أن العربي عندما كان يسمع آية من القرءان يؤخذ بمحاسنها ويحاول تقليدها فتمتنع عنه نظرا لقوة بيانها وخصب معانيها وطرائف موضوعاتها، فقد قص القرءان قصص الأنبياء وبين الأحكام وأعطى النصائح كل ذلك بلغة عربية متينة حتى أن من المسلمين من جعل الإعجاز يرجع إلى لفظ القرءان.
ومن يتتبع حياة العرب يجد أن للإسلام أثرا كبيرا في أحيائهم ووحدتهم وأنه كان من أكبر الدواعي التي جعلت اللغة العربية لغة دولية بعد ما كانت لغة إقليمية.
كانت اللغة العربية محصورة في جزيرة العرب وبعض أطرافها في مشارف الشام والعراق إلى تدمر فلما جاءت الدعوة الإسلامية وانتشرت انتشارا عاما اتصل العرب بالفرس والروم والهند والحبشة عن طريق الدين فاسلم كثير من هؤلاء واختلطوا بالعرب، وانكبوا على اللغة العربية يتعلمونها ويدرسونها وعلى القرءان يتفهمونه ويشرحونه لأنهم إذا لم يتعلموا اللغة العربية فسيبقون بعيدين عن لغة دينهم وعن الوظائف العامة، لأن الإسلام دين المساواة ولا يجعل الفرق بين العربي وغيره إلا بالتقوى، فإذا كان الإسلام يسمح لكل مسلم بالولاية وباحتلال المناصب العامة فأنه يشترط في ذلك المعرفة بالدين والاطلاع على كتاب الله ولهذا وجدنا المسلمين قد تهافتوا والاطلاع على كتاب الله ولهذا وجدنا المسلمين قد تهافتوا على تعلم اللغة العربية لأن الاطلاع عليها هو أكبر عامل على تفهم معاني القرءان، وحيث أن الدين أصبح مقترنا به فليس من المعقول أن تسير الدولة إلا على نهجه وإلا تنظم المراسلات الإدارية إلا بلسانه.
ومن الضروري للأمة إذا أرادات أن تساير الحضارة أن يكون التعليم فيها فاشيا وأن يكون للغتها من الحصانة ما يجعلها قادرة على تحمل المسؤوليات، وقد فكر المسلمون الأولون في ذلك فرأوا أن اللغة أصبحت أساسا من أسس انتشار الدين والثقافة لذلك اعتبروا تعليم اللغة العربية ضروريا، وقد بدا النبي ذلك حينما انتصر في غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية من الهجرة وأسر عددا كبيرا من المشركين فأنه سمح لهم بالانطلاق من أسرهم إذا افتداهم أهلهم وجعل لكل من ليس معه فداء وهو يعلم القراءة والكتابة أن يعلم عشرة من غلمان المدينة ويعتبر ذلك فداء له، وأن دل هذا العمل على شيء فهو يدل على اعتناء النبي بتعليم اللغة العربية لأنه يعلم أن اللغة هي الركيزة الأولى في الانتصار والمجد وأن التعليم هو أساس ضمانها.
وقد اقتدى به الخلفاء والملوك في تعليم اللغة حتى أن عمر بن الخطاب أمر ببناء أماكن خاصة لتعليم الصبيان وتأديبهم.
وقد أصبحت الحركة التعليمية تزداد وتفشو بين الآفاق الإسلامية وأصبح المسلمون يدرسون لغتهم، لغة القرءان ويحفظونها من الضياع.
وليس معنى هذا أن العرب قبل الإسلام كانوا جاهلين أو لم تكن لديهم حركة أدبية بل راينا أن النبي كان يأخذ من بين الأسرى العرب من يعلم أبناء المدينة وذلك دليل على وجود الكتابة قبل الإسلام، فإذا سألتم لماذا إذن ندعو العرب قبل الإسلام بالجاهليين ونسمي عصرهن بالعصر الجاهلي ولماذا نعتهم القرءان بذلك حين قال في سورة المائدة :«
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ»
فإننا نرى أن المهتمين بشرح ذلك من مؤرخي الأدب قد نسبوا الجهل للعرب من عبادتهم للأوثان ومن إتباعهم لتقاليد تدل على عدم رقيم اجتماعيا، إلا أن ذلك الجزء من المعرفة كان كافيا حينما كانوا قابعين في جزيرتهم، أما وقد أصبحوا يجولون بين الأقطار ويتحكمون في كثير من الدول ويرأسون الفرس والروم فقد أصبح نصيبهم من المعرفة غير كاف لمقامهم السياسي والإداري، فالإسلام أصبح في حاجة إلى كتاب دبلوماسيين وإلى آخرين في الحسابات الإدارية خصوصا وأن عمر بن الخطاب قد نهج الفرس والروم في وضع دواوين خاصة بالجيش وبالحسابات العامة، فاضطر أول الأمر أن يجعل هذه الدواوين في العراق باللغة الفارسية وفي الشام بالرومية وفي مصر بالقبطية، ولكنه لم يكن راضيا على هاته الحالة لذلك كان يعمل جهد مستطاعه حتى يوجد طبقة من المتعلمين يسيرون دواوين الأمة باللغة العربية.
ولما وصل الحكم إلى الأمويين تعصبوا للعرب وللغتهم وتنكروا لكل ما عداها من اللغات وأصبحت لغتنا غير قاصرة في الأدب والدين بل تعدت ذلك إلى العلوم العامة وإلى تسيير الإدارة وأعلن عبد الملك أبن مروان تعريب الإدارات ومحا تلك الفرقة اللغوية في تسيير الدواوين بين أجزاء المملكة الإسلامية وفكر بعض العلماء في ترجمة بعض الكتب عن اللغة الفارسية واليونانية ولكن ذلك لم يكن بالحركة القوية وإنما كان ذلك إرهاصا لما سيقع بعد الدولة العباسية.
ومن بين هؤلاء العلماء الذين قاموا بحركة النقل حفيد معاوية خالد بن يزيد المتوفى سنة 82هـ 704م والذي يقول عنه الجاحظ في كتابه البيان والتبيين: «كان خالد بن يزيد بن معاوية خطيبا شاعرا وفصيحا جامعا وحيد الرأي كثير الأدب وكان أول من ترجم كتب النجوم والطب والكيمياء».
ومن يهتم بتاريخ اللغات يجد أن الحضارة هي أكبر داع لنشرها وحيث أن الدولة الأموية كانت أكثر حضارة من عهد الخلفاء الراشدين فإن اللغة العربية لاشك أنها كانت في أيامهم أعظم انتشارا منها في أيام الخلفاء، وقد كثر العلماء الذين يعتنون بها ويدرسونها ويهتمون بالعلوم العامة المؤلفة بها ويسعون في انتشارها وينظمون الحلقات الخاصة لإذاعتها ويهيئون الكتب للمطالعة، فقد روى صاحب الأغاني: «في الجزء الرابع صفحة 52» أن عبد الحكيم بن عمرو بن عبد الله بن صفوان الجمحي قد اتخذ بيتا فجعل فيه شطرنجات ونردات وقرقات ودفاتر فيها من كل علم، وجعل في الجدار أوتادا فمن جاء علق ثيابه على وتد منها ثم جر دفترا فقرأه أو بعض ما يلعب به فلعب.
ونستنتج مما تقدم أن اللغة العربية أصبحت في العصر الأموي لغة الإدارة والعلم والأدب وأنها أصبحت تتسع وتنتشر في البلدان المفتوحة وأنها أصبحت هي اللغة الوحيدة المعبرة عن الاتجاهات الفكرية عند المسلمين ومن المعقول أن اللغة حينما تصل إلى هاته الدرجة وحينما تعمل على نقل إنتاج الفكر البشري من دول أخرى ستضطر إلى اختلاق بعض الكلمات الحديثة أو إلى تحويل بعض المصطلحات من معنى عادي إلى معنى جديد أو إلى إدخال كلمات جديدة في اللغة مع إخضاعها لقواعدها العامة.
وإذا كنا نتحدث عن اللغة العربية من وجهة المعاني العامة فمن الطريف أن نتحدث عن أشكالها ورسومها الخاصة فيه في العصر الجاهلي وفي صدر الإسلام أيام الخلفاء الراشدين وفي أوائل الدولة الأموية كانت تكتب بحروف غير منقوطة ولا مشكولة فكان القارئ حينما يرى الكلمة يعبر عن معناها، ولذلك تعددت القراءات في القرءان وتعددت الروايات في الشعر، ولا شك أن الذي يعرف اللغة العربية يستطيع بطريقة الاقتران الشرطي أن يفهم المقصود من الحروف بمجرد النظر فيها ولو كانت غير منقوطة ولا مشكولة ولكن حيث أن العرب قد كثر اختلاطهم بالذين أسلموا من الفرس والروم والحبشة وغيرهم فقد فشا اللحن بينهم وأصبحت اللغة العربية غير سليقية في كثير منهم، وكيف يمكن أن يحدد معنى الكلمة الغير المشكولة من ليست له بديهة في فهم اللغة العربية، لذلك فكر عدد من العلماء في إيجاد حل لهاته الطريقة الكتابية فاهتدى أبو الأسود الدؤلي المتوفى سنة 67هـ إلى حل أولى اعتبر بسببه أول من وضع علم النحو، وذلك أنه كتب القرءان بمداد ذي لون خاص ثم احضر من يمسك المصحف وأعطاه صبغا يخالف لون المداد وقال له: «إذا فتحت فأي فأجعل نقطة فوق الحرف، وإذا كسرت فأي فأجعل نقطة تحت الحرف، وإذا ضممت فأي فأجعل نقطة أمام الحرف فإن اتبعت شيئا من هذه الحركات غنة أي تنوينا فأجعل نقطتين» ففعل إلى آخر المصحف.
ولما كان هذا الحل أوليا فإن العلماء قد رأوا أنه ما زال يوجد الالتباس في الفرق بين القاف والفاء مثلا والسين والشين وغير ذلك من باقي الحروف فاتفقوا على وضع النقط للتمييز بين الحروف وأما الحركات فقد تحولت في العصر العباسي حين اختلق الخليل بن أحمد رسوما لها ما زالت آثارها تستعمل إلى الآن.
وإنما تحدثنا عن هذا الموضوع لنعرف أن علماء اللغة العربية قد بدأوا يهتمون بالكيفية التعليمية وأنهم أصبحوا يفكرون في كيفية جعل قواعد خاصة بها تحفظها من الضياع خصوصا وأنهم أصبحوا يفكرون في نقل العلوم المؤلفة باللغات الأخرى وقد يتسبب ذلك في اشتقاق بعض الكلمات وأخذها عن الغير مما يجعل القارئ في التباس إذا لم تكن الكلمة مشكولة فالشكل هو أكبر داع لحفظها من الالتباس ولذلك اشتقوه من شكل الدابة وهو عقالها لأن الحروف تضبط بعقالها فيمنعها من الهروب.
واشتهرت مدينتان عظيمتان في وضع القواعد اللغوية العربية وتحديد اتجاهاتها وتكونت بسبب ذلك مدرسيات لكل واحدة منهما طريقتها الخاصة في التفكير.
فأما البصريون فقد جددوا الحركات لبعض المعاني بعد الاستقراء العام ووضعوا القواعد الأساسية ثم قاسوا على ذلك وألزموا التابعين باحترام خطتهم وعدم اعتبار ما دونها ولو قالت به العرب في بعض إشعارهم ويعتبرون ما قيل مخالفا لذلك يسمع ولا يقاس عليه بخلاف الكوفيين فقد تعددت مناحي قياسهم وتعددت أوضاعهم الفكرية في وضع القواعد العامة للنحو العربي وتكونت بعد هؤلاء مدرسة أخرى هي مدرسة أخرى هي مدرسة بغداد وكان من رؤسائها أبن قتيبة ولم تزدهر هذه المدارس إلا أيام العباسيين.