أهمية التراث الأدبي واللغوي ظاهرة التنغيم العربية والانجليزية نموذجا

مقال يبحث في التراث الأدبي، واستعمالاته، واستخدامه في الحوار مع الشعوب الأخرى، وأخذ المقال ظاهرة التنغيم نموذجًا.

المؤلف: د. هيفاء شاكري المصدر: الألوكة التاريخ : 14/01/2020 المشاهدات : 739

المحتوى


المقدمة:

تميزَت اللُّغة العربية بخصائص متميزة وسِماتٍ فريدة لا توجد في لغةٍ أخرى، ويَكفي شرفًا للغة العربية أن تكون لغة القرآن الكريم الذي لم يَكن للعرب وحدهم، بل لجميع البشَرِ باختلاف ألوانِهم وأجناسِهم.

 واللغة بشكلٍ عام هي كالمرآة التي نَشعُر من خلالها بجرَس الألفاظ، ونَغمات التعبير، وطريقةِ الأداء، وصِفاتِ وملامِح شخصيات أصحاب اللغة، والعقليَّةِ والسِّمات، والطبائع والعادات والأخلاق.

 وتشتمل العربيَّةُ على خزائن قيِّمة في تراثها، نحن في أمسِّ الحاجة إلى كشْف هذه الكنوز واستخراجِها، ثمَّ ربطِها بما هو جديد من نظريَّات علمية، وبيان قيمتها النقديَّة؛ لنُظهِر أمام العالم أجمَع أهميَّةَ هذا التراث القويم، وأنَّه لا يقلُّ قيمة في جماله وقوَّتِه، ومرونته وحيويَّته عن أيِّ لغة، سواء كانت شرقيَّة أو غربية؛ وذلك لا يأتي إلَّا عن طريق الحوار الإيجابي الذي نُعاني من غيابه، مع العلم أنَّه من غير المعقول أن يَحصل أيُّ تقدُّم ما لم نتعرَّف على الآخر، ومحاورته في فِكرِه وثقافته وتراثِه، وهذا عنصر مهمٌّ في التفاعل والتبادل بين الشعوب؛ لذلك فإنَّه من الضروري أن نَقرأ التُّراثَ ونستخدمَه في حوراتنا مع الشعوب الأخرى.

وهناك مئات اللآلئ التي تَحتوي عليها كنوزُ التراث الأدبيِّ واللغوي للغتنا العربيَّة، انتقيتُ منها لؤلؤةً قيِّمةً للدراسة والبحث.

والتنغيم: هو إطالَة الصَّوتِ وتنغيمُه على أحرف اللِّين، أمَّا النَّبر: فهو نَشاط في جهاز النُّطق، وعند النَّبر نجِد نشاطًا لعضلات الرِّئتين وقوَّةَ حركات الوترَين الصَّوتيين.

 وقد تحدَّث عن التنغيم ابنُ جني في كتابه "الخصائص"، حيث ذَكر نصًّا لسيبويه ليدلّل على حذف الصِّفة وما يُحدِثه هذا الحذفُ من أثَر على معنى الكلمة أو الجملة، وتركيبِ الكلام، وارتباطِ الدَّلالة الصوتية بظاهرة التنغيم، وسيتمُّ ذِكر النصِّ في البحث بإذن الله تعالى.

وتُدرَّس ظاهرة التنغيم اليوم في الجامعات في أنحاء العالم على أنَّها ظاهرة اكتشفَها الغربُ في الأربعينيات، ولكنَّنا نرى مِن نصِّ سيبويه أنَّ التنغيم قد وُجد في العربيَّة منذ البداية، وقد اكتشفه العلماءُ وتحدَّثوا عنه، وستدور الورقةُ حولَ قراءة هذه الظَّاهرة في التراث بذِكر أمثِلة متعدِّدة، ومقارنتِها بما يوجد من مَثيلاتها في اللغة الإنجليزيَّة، وبيانِ أهميَّة النصوص العربية والتراثِ القيِّم، وما يَمتاز به من مرونةٍ ورونق، وجمالٍ وخصائص لا تَجعلها تتخلَّف عن لغات العالم المتقدِّم بأيِّ حال من الأحوال.

وسيكون هناك ذِكرٌ لآراء علماء الغرب والمستشرقين حول هذه الظَّاهرة، وكيفيَّة ربطها بالنَّظريات العلميَّة والنقديَّة الحديثة التي ظهرَت في العصر الحديث، وتوجد أمثلة كثيرة على هذه الظَّاهرة في القرآن الكريم والأحاديثِ والشِّعر العربي، وسأقوم بمناقشتها كذلك في الورقة.

أمَّا التنغيم كما عرَّفه الغربُ، فهو:

Intonation: Is variation of spoken pitch that is used to distinguish words. It is used for a range of functions such as indicating the attitudes and emotions of the speaker.

وقد ظهَر التنغيمُ في النَّقد الغربيِّ في فترة الأربعينيَّات، وهناك نظريَّات معيَّنة تدور حولَ هذه الظَّاهرة، سوف نُناقِشها في البحث الكامِل إن شاء الله، إضافة إلى التحدِّيات التي يواجهها الباحِثُ العربيُّ في قراءة التراث وضرورة تقبُّل النَّقد والاختلاف والمراجعة.

أدعو اللهَ تعالى أن أوَفَّق في تقديم الفِكرة وتوضيحِها، وبيان أهميَّةِ قراءة التُّراث الأدبي واللغوي كضرورة علميَّة لمواجهة تحدِّيات العصر.

إنَّ اللغة التي يتحدَّث بها الإنسانُ هي أقرب شيءٍ لحياته؛ لذلك فهو يَعتني بها، ويُولِيها من الاهتمام والدِّراسة المنظَّمة العميقة قدرًا كبيرًا، وقد بذَل العلماءُ والمفكِّرون جهودًا جبَّارةً في دراسة اللغة من خلال المناقشات والأبحاثِ، والندواتِ والمؤتمرات، وكل لغات العالم تَحظى بهذا الاهتِمام من قِبَل أصحابِها ومتحدِّثيها، ولأنَّ اللغة العربيَّة تتمتَّع بخصائص متميزة لا تتمتَّع بها لغة أخرى في الكون؛ ولذلك حظيَت من الدِّراسة والاهتمام ما لم تحْظَ به أي لغةٍ من اللغات المتداولة أو المندثِرة.

ويكفي شرفًا للُّغة العربيَّة أنها لغة كتابِ الله العزيز، لغة القرآنِ الكريم، الذي خاطَب اللهُ به جميعَ البشر من جميع الأجناس، وبذلك انتشرَت العربيَّةُ في جميع الأنحاء، وأقبل عليها العلماءُ والروَّاد يَدرسونها ويبيِّنون ما خَفي من أسرارها؛ في بلاغتها، ونحوِها، وصرفها، وهناك سلسلة طويلة وفِهرسٌ لا يَنتهي إذا أردنا أن نَذكر هؤلاء العلماء من العرَب وغيرهم، ويمكن أن نَذكر على سبيل المثال سيبويه صاحب "الكتاب"، وقد ذكرتُه هنا لأنَّ نصًّا من كتابه سيُذكر في هذا البحث كأساس لدِراسة ظاهرة التنغيم.

وليس من الغريب أن يهتمَّ علماء الغرب أيضًا باللغة العربية بسبب ما خلفه علماءُ العربيَّة من مؤلَّفات وتصانيف، فانتبَه إليها هؤلاء، ووقفوا مستغربين أمام قوَّتها وكمالِها وحيويَّتها، هناك الكثير منهم من شهِدَ لها بذلك، ولو أنَّ العربية لا تَحتاج إلى شهادة أحد لتكون أفضلَ اللغات، يقول أرنست رينان صاحب "الموسوعة المسيحية":

"فهذه اللغة المجهولة التاريخ تَبدو لنا فجأةً بكلِّ كمالها ومرونتِها وثروَتها التي لا تَنتهي، لقد كانت هذه اللُّغة منذ بدايتها بدرجة من الكمال تَدفعنا إلى القول بإيجاز: إنَّها منذ ذلك الوقت حتى العصر الحاضِر لم تتعرَّض لأيِّ تعديل ذي بال؛ فاللُّغة العربيَّة لا طفولة لها، وليس لها شيخوخة أيضًا، منذ ظهرَت على الملأ ومنذ انتصاراتها المعجِزة، ولستُ أدري إذا كان يوجد مثَل آخر للغةٍ جاءت إلى الدنيا مثل هذه اللُّغة من غير مَرحلة بدائيَّة، ولا فترات انتقاليَّة، ولا تَجارب تتلمَّس فيها معالمَ الطريق".

وهذا فقط مثال واحد من بين مئات الأمثِلة على الاهتِمام والعِنايةِ بالعربيَّة من أصحابها وغيرِهم.

وما تَحتويه وتحمله العربيَّةُ بين جنباتها من تراثٍ قويم، من الصَّعب جدًّا الإحاطة به ودراستُه في فترة زمنيَّةٍ قصيرة، وهنا يَطرح السؤالُ نفسَه: لماذا نَقرأ التراثَ ونهتمُّ به هذا الاهتمام؟ وطبعًا الإجابة ليسَت بسيطة؛ وإنما تَحتاج إلى دراسة وتفكير ومناقشة.

فالتراث الأدبي واللُّغوي هو نافِذة نطلُّ منها على التجارب الإنسانيَّةِ المختلفة، وبالنِّسبة للعربيَّة فهي التجارب التي ارتبطَت بخير الأديان وخيرِ الكتب، فنَستفيد منها وننهلُ من مَعينها الذي لا يَنْضُب، وتراث العربيَّة ليس تجربةَ الأمة العربيَّة وحدها؛ وإنَّما هو بوتقةٌ انصهرَت فيها الحضارات الأخرى من بِقاع العالم المختلفة، وارتباط هذا التراث بالقرآن الكريم مَنَحه معالِمَ متميِّزة وعلومًا مختلفة؛ من بلاغةٍ، ونحو، وصرف، التي كثيرًا ما استمدَّت أساسَها من النصِّ القرآني، والحديثِ النبوي الكريم، إضافة إلى ذَخيرة العرب الكبيرة من الشِّعر الأصيل الذي يَقف كجدارٍ قويٍّ أمام التحديات والهجمات المتواترة على هذا التراثِ الأصيل، وتراثنا الأدبي واللغوي له حضورٌ فاعِل، لا بين الأصول العربيَّة فحسْب؛ بل في قلب كلِّ مسلم باختلاف البلدان والدِّيار.

ورغم المحاولات العديدة والهَجمات الشَّديدة التي قام بها أعداءُ العربيَّة على تراثها وثقافتِها، ودعوتهم إلى فصْل هذا التراث عن تيَّار الفِكر الجديد وما يسمَّى بالحَداثة والتجديد، فإنَّه بقي محافظًا على هُويَّته ومكانتِه، وقام وما زال يقوم بدورٍ فعَّال ومتميز في ربْط الماضي العريق بالمستقبل الزَّاهي بإذن الله، لكن ذلك لن يَحدث إلا إذا قُمنا بدراسة هذا التراث دراسةً عميقةً متأنِّية، وأثبتنا أنَّ تراثنا ليس تراثًا جامدًا منغلقًا على نفسه، يدور في مداره، ولكنَّه تراث يملك قدرةَ الوصول إلى آفاقٍ جديدة؛ بالحِفاظ على ماضيه المرموق، يمكنه أن يَكتشف سبلًا جديدة، ويثرينا بآراء لا تقلُّ حداثة عن أيِّ علم من علوم العالم أجمع، وإذا كان هذا يمثِّل تحديًا أمام المهتمِّين بالعربيَّة والقائمين على المشكلات التي تواجِهها؛ فإنَّ هناك تحدِّيًا آخر مهمًّا جدًّا؛ وهو تقريبُ هذا التُّراث من فِكر وأذهان أبنائنا وطلَّابنا، وتيسيره لهم بطريقة تجعلهم يتذوَّقون حلاوتَه وعذوبتَه، ويدركون مدى أهميَّته حينما يلاحظون تفوُّقَه على تراث وعلوم اللغات الأخرى، فيعتزُّون به ويشعرون بالفخر لانتمائهم العربي الأصيل.

وقد حاولتُ أن أقوم بخطوة بسيطة متواضِعة في هذا المجال، ولا أدَّعي أنَّني تعمَّقتُ في سبْر أغوار هذا التُّراث الذي أرتبط به برابِطَة الدِّين واللغة، ولكنَّني لاحظتُ وجودَ ظاهرة التنغيم في كثيرٍ من الآيات والأحاديثِ، والأشعار والأمثال العربيَّة، ثمَّ عندما قرأتُ أكثرَ عن هذه الظاهرة وجدتُ أنها موجودة في لغات أخرى؛ منها الإنجليزيَّة، فبحثتُ عن أصلها في العربيَّة، وقارنتُ ذلك بما يوجد من مثيلاتها في اللُّغة الإنجليزيَّةِ، واتَّخذتُ ذلك نموذجًا لبيان أهميَّةِ التراث الأدبيِّ واللغوي، وربطِه بكلِّ ما هو جديد في مجال البحث اللغوي.

ما اتَّخذته أساسًا لهذا النَّموذج هو نصٌّ ذكره ابنُ جني[2] في كتاب الخصائص، والنص هو: (وقد حُذفَت الصِّفة ودلَّت الحالُ عليها؛ وذلك فيما حكاه صاحب الكتاب من قولهم: سِيرَ عليه ليل، وهم يريدون: ليلٌ طويل، وكأن هذا إنَّما حذفَت فيه الصِّفة لما دلَّ من الحال على موضعها؛ وذلك أن تحسَّ في كلام القائل لذلك من التطويح والتطريحِ، والتفخيم والتعظيم، ما يقوم مقام قولِه: طويل أو نحو ذلك، وأنت تحِسُّ هذا من نفسك إذا ما تأمَّلتَه؛ وذلك أن تكون في مدْح إنسان والثناء عليه فتقول: كان واللهِ رجلًا، فتزيد في قوَّة اللَّفظ بـ(الله) هذه الكلمة، وتتمكَّن من تَمطيط اللام وإطالة الصَّوت بها وعليها؛ أي: رجلًا فاضلًا، أو شجاعًا، أو كريمًا، أو نحو ذلك)[3].

فابن جني يتحدَّث عن أسلوب التقديم والتأخير، وما يُعطيه من جرسٍ موسيقيٍّ للكلمات يجعل النَّفْسَ الإنسانية تَشعر به، وهذا النصُّ يساعِدنا على وضْع الأسُس التي اعتمَد عليها القدماءُ في تنغيمهم للكلام، وإعطاء نغمَة الجملة المعنى العاطفي المراد، فنجد في النصِّ ثلاثة أُسس رئيسية للتنغيم، وهي:

1- طريقة ترتيب الكلام.

2- النَّبْر أو الضغط.

3- أحرف اللِّين.

ففي قولنا: "سير عليه ليل" نلاحِظ أنَّ نائب الفاعِل تمَّ تأخيرُه عن فعله، وفُصِل بينهما بجارٍّ ومجرور، وهذا ما يَجعلنا نستطيع أن نمدَّ ونطيل في كلمة "ليـ يـ يل" للدَّلالة على الصِّفة المحذوفةِ والمقصد المراد؛ وهو "ليل طويلٌ جدًّا"، والمعروف في العربيَّة أنَّنا نَعتمد في أغلب الأحيان على حروف اللِّين عند إطالَةِ الصَّوت وتنغيمه.

يقول د. إبراهيم أنيس في "الأصوات اللغوية":

"فلِطول الصَّوت أهميَّة خاصَّة في النطق باللُّغة نطقًا صحيحًا، وإنَّ المران السَّمعي يَكفي عادةً في ضبْط هذا الطول دون حاجة إلى المقاييس الآليَّة، أمَّا العوامِلُ المكتسَبة التي تؤثِّر في طول الصَّوت اللُّغوي، فأهمُّها النَّبر، ونغمة الكلام، وربَّما كان لنحو اللُّغة أثرٌ أيضًا في طول الصوت أحيانًا"[4].

والمرء حين يَنطق بلغته يَميل إلى الضَّغط على مقطَعٍ خاص من كلِّ كلمة؛ ليجعله بارِزًا في السَّمع عن غيره من مقاطع الكلمة، وهذا الضَّغط نسمِّيه النَّبر[5].

 مثال آخر هو الوقف على كلمة

﴿نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]

في قوله تعالى:

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]

، أو على ﴿ الْمُسْتَقَرُّ ﴾ [القيامة: 12] في قوله تعالى:

﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ﴾ [القيامة: 12]

، ففي تَأخير الفِعل 

﴿نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]

بمدِّ الياء، وإطلاقِ النَّبر في مقطع (عِين)، والوقوف على النون - نَستطيع أن نقدِّر الكلامَ المحذوف وهو (نَستعينُ عونًا كبيرًا واسعًا)، فلو كان الكلام (نَستعين بالله) لَما وُجد ذلك الأثر النَّفسي والمعنوي للسَّامِع والقارئ الذي يوجَد في التعبير القُرآني، وكذلك في كلمة (مُستقَر) والوقوف عليها دلالة على كون المستقَر إلى ربِّ العالمين هو الأخير والنِّهائي.

وفي قول ابن جني بيانٌ للمعنى المَحذوف، ولوكان الكلام: (سير ليل عليه) لَما دلَّ تلك الدلالة المعنوية والنفسيَّة، بمعنى ليل طويل، كذلك كان المعنى: نستعين بك عونًا كبيرًا.

والمثال الثاني في النَّصِّ هو: (كان والله رجلًا)، وهذا المثال يأتي به ابن جني ويفصِل بين الفعل النَّاقص (كان) وبين خبره بالجملة الاعتراضيَّةِ؛ وهي جملة القسَم (واللهِ)، ونَستطيع من خلال تَمطيط لفظ الجلالة وتفخيمِه مع لفظ النَّبر بقوَّة في نهاية (رجلًا) أن نَستنتج بأنه كان رجلًا فاضلًا كريمًا.

فليس النَّبر وحده يعطينا نغمةَ الكلام، ولكنَّه فرْع من عدَّة أشياء تَجتمع لإعطاء نغمة الكلام التأثيرَ المراد، "فالمعروف أنَّ بعض الأصوات وبعضَ التراكيبِ الصوتيَّة ذات قوَّة تعبيريَّة عن المعنى وملائمة لهذا المعنى بوجهٍ خاص؛ وهذا هو معنى رمزيَّة الصوت"[6].

ولنذكر آيةً أخرى تُثبت ما ذُكِر من قول؛ ففي قوله تعالى:

﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: 2]

، هنا يتقدَّم الجارُّ والمجرور على المفعول به، ومن خلال إظهار النَّبر على المقطع (جا) في لفظنا ومدنا للألف يُعطينا معنًى جديدًا، وهو (مخرجًا عظيمًا أو كبيرًا)، فلو كان الكلام: يَجعل مخرجًا له، لَما أفاد المعنى نفسه الذي ورَد في القرآن الكريم.

 وفي مثال الحديث:

حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب أن سعيد بن المسيب أخبره وأبا سلمة بن عبد الرحمن أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال "أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أني أقول والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنت الذي تقول والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت قلت قد قلته قال إنك لا تستطيع ذلك فصم وأفطر وقم ونم، وصم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر فقلت إني أطيق أفضل من ذلك"[7].  

ففي مدِّنا لكلمة الصيام ونهاية الكلام عليه دَلالةٌ واضحة على كونه أفْضَل أنواع الصِّيام، ((ولا أفضَل من ذلك))؛ كما قال الرسولُ صلى الله عليه وسلم.

 

• وفي مثال الشِّعر: يمكن أن نَذكر شِعر الأعشى[8]:

وصلِّ على خيْرِ العشيَّات والضحى ♦♦♦ ولا تعبدِ الشيطانَ واللهَ فاعبدا[9]

فاستخدم صيغةَ المثنَّى للمفرد؛ استنادًا إلى قول العرب: افعلا ذلك، والمخاطَب واحِد، وفي تمديدنا لكلمة (فاعبُدا) دلالة على عِبادة الله وحده لا شريك له.

هذه بعض الأمثِلة من الكمِّ الهائل من الأمثلة والدَّلائل على وجود التَّنغيم والنَّبر في اللغة العربية.

 

أمَّا إذا أتينا إلى اللغة الإنجليزيَّة، فقد اكتُشِف فيها التنغيم في الأربعينيَّات كما ذُكر، وهناك تعاريف عديدة ذكرتُ إحداها سابقًا، والآخر هو:

Intonation is a melody or music of a language. It refers to the way the voice rises and falls as we speak.

فعندما نقول:

It’s raining, isn’t it?

فإنَّنا نخبر عن نُزول المطر إذا استخدمنا أسلوبَ الإخبار، ويمكن أن نَستخدم نفسَ الكلمات في سؤالنا عن المطَر إن كان نازلًا أم لا، ولكن نَستخدم أسلوبَ الاستفهام، فهنا تختلف نبْرَة الكلام تمامًا؛ وذلك ما يسمَّى في اللغة الإنجليزية بـ Intonation، وله في الإنجليزيَّة أربعة أنواع:

1- Falling tone

2- The low rising tone

3- The high rising tone

4- The fall rise tone

 

فالأول: هو التنغيم المنخفِض؛ الذي يستخدم كثيرًا ويدلُّ على تمام الكلام، وخاصَّة أثناء المحادثة؛ حيث يَستطيع السامِع أن يعرف مَتى يبدأ في الكلام.

 

والثاني: المنخفِض العالي؛ الذي يَبدأ مُنخفضًا ثمَّ يرتفع، ويُستخدم في السؤال عن المجهول.

 

والثالث: التنغيم العالي المرتفع؛ الذي يَبدأ عاليًا ويرتفع تدريجيًّا، وذلك في موقفٍ عاطفيٍّ؛ مثل التعجُّب، أو الاستنكار.

 

والرابع: هو التنغيم المنخفِض المتميز؛ الذي تَظهر فيه الموسيقا بشكلٍ واضح.

 

الأمثلة:

I’m flying to Riyadh tomorrow.

Flying to Riyadh? (repetition)

I’m taking up Taxidermy this autumn.

Taking up what? (clarification)

He passed his driving test.

He passed? (disbelief)

وهكذا نرى أوجُه التَّشابه والاختِلاف في التنغيم بين اللُّغتين، ويهمُّنا هنا أن نثبِت العلاقةَ بين تراثنا القديم وبين العلوم اللغويَّةِ الحديثة، والكشف عن الجوانب الأخرى المتعدِّدة لهذا التراث، وما ذكرتُه عن ظاهرة التَّنغيم ليس إلَّا نموذجًا واحدًا من بين آلاف الظَّواهر، التي تَحتاج إلى إعادة النَّظر، والرَّبط بينها وبين الحداثة، وإظهار التنوع والاختلاف.

 

الخاتمة:

وبذلك نرى أنَّ التنغيم سِمَةٌ لغويَّة موجودة ومستعمَلة بشكل واسِع في اللغتين على مسار ونِطاق واسع، لكنْ لأغراضٍ مختلفة، وهو بحثٌ يمكن أن يمتدَّ إلى عشرات الصَّفحات، وعلينا بالدِّراسة المتعمقة لشروط ومواقع وقوانين وضوابط التنغيم في اللُّغتين، ومقارنتها؛ وذلك لتَطوير المهارة اللغويَّة والشعور بالانتماء إلى أفْضل تراثٍ أدبيٍّ ولغوي، مع استقبال كل جديدٍ ومفيد، واعتراف بقيمة العلوم الأدبيَّة الأخرى والارتباط والتواصل بها، وعلينا أن ندرِك أنَّ الجانب الإبداعي مهمٌّ جدًّا في دِراسة النصوص، وعلينا أن نتذوَّق هذه النصوص بالاستِعانة بألفاظ القرآن ومفرداتِه وتراثِنا القديم، مع ضرورة ربْطِه بالحَداثة والتجديد؛ للتواصل بين الأمم، والمساعدةِ في تكوين عالَمٍ يتمتَّع بالأمن والسلام.

المراجع

1 - القرآن الكريم. 

 2 - إبراهيم أنيس: "الأصوات اللغوية"، دار العلوم جامعة القاهرة، 1961. 

 3 - إبراهيم بن مراد: "دراسات في المعجم العربي"، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1987. 

 4 - أبو منصور الثعالبي: "فقه اللغة وسر العربية"، دار الكتاب العربي، بيروت، 1993.

 5 - أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر السكاكي، مفتاح العلوم، ضبطه: نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، 1983. 

 6 - أحمد بن أحمد بن مصطفى: "مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم"، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985. 

 7 - الجاحظ: "البيان والتبيين"، دار الفكر، بيروت، 2000. 

 8 - حنا الفاخوري: "الجامع في تاريخ الأدب العربي"، دار الجيل، بيروت، 2005. 

 9 - ستيفن أولمال: "دور الكلمة في اللغة"، ترجمة: كمال محمد بشر. 

 10 - شوقي ضيف: "تيسيرات لغوية"، دار المعارف، القاهرة، 1990. 

 11 - عبدالجليل عبدالرحيم: "لغة القرآن الكريم"، مكتبة الرسالة الحديثة، الأردن، 1981. 

 12 - "المنجد"؛ دار المشرق، بيروت، 1986.


 

المصادر الإنجليزية:

1- John C. Wells, English Intonation: An Introduction, Cambridge University Press. 2006 2-

 Michael Halliday, A Course in Spoken English, Oxford University Press, 1970 3- Michael Swan, Grammar, Oxford 

University press. 2006 [1] أستاذة مساعدة، قسم اللغة العربية وآدابها، الجامعة الملية الإسلامية، نيو دلهي، الهند. [2] ابن جني: (942 - 1002)، عثمان، ولد في الموصل، وتوفي في بغداد، نحوي بصري، له (سر صناعة الإعراب)، و(الخصائص) وكتب أخرى.

 [3] الخصائص (2 / 270). 

 [4] إبراهيم أنيس: "الأصوات اللغوية"، ص (105). 

 [5] المصدر السابق، ص (108). 

 [6] دور الكلمة في اللغة، ص (92). 

 [7] صحيح البخاري، رقم الحديث: 3236. 

 [8] الأعشى: ميمون بن قيس، توفي (629)، شاعر جاهلي أدرك الإسلام، وُلد في اليمامة، يعرف بالأعشى الأكبر، يلقب بصناجة العرب؛ لمتانة شعره وموسيقاه، أشهر قصائده "اللامية".

 [9] ديوان الأعشى، ص (187)، نقلًا عن "فقه اللغة وسر العربية"؛ لأبي منصور الثعالبي. رابط الموضوع: https://www.alukah.net/literat...


التعليقات

  • اللغة العربية بين إشراقات الماضي ورهانات الحاضر
    اللغة العربية بين إشراقات الماضي ورهانات الحاضر

    يبحث المقال في طرائق تدريس اللغة العربية قديمًا، والتهم الموجهة لها، ويبحث في سبل تمكينها وتحديثنها.

  • توجيه اللمع شرح كتاب اللمع
    توجيه اللمع شرح كتاب اللمع

    تحقيق لكتاب اللمع لابن جني، قسم على قسمين: الأول للدراسة، وفيه ثلاثة فصول، والقسم الثاني تحقيق كتاب اللمع، وقد اعتمد في التحقيق على نسخة الأزهرية.

  • خزانة الأدب وغاية الأرب وبهامشه رسائل بديع...
    خزانة الأدب وغاية الأرب وبهامشه رسائل بديع...

    كتاب في البلاغة وموضوعاتها، يبدأ بالجناس، ثم التشبيه، ثم الانسجام، وعناوين أخرى، وبهامشه رسائل بديع الزمان الهمذاني.

  • العربية وأسرة الساميات
    العربية وأسرة الساميات

    يوضح المقال تاريخ اللغة العربية وانتمائها للغات السامية، والقواعد اللغوية فيها، وتاريخ تلك القواعد، والتغيرات الطارئة عليها.

  • علم البيان
    علم البيان

    كتاب جُمع فيه محاضرات ألقاها المؤلف على طلبته في جامعة بيروت العربية، مقسمًا إياه إلى قسمين؛ أما القسم الأول فيعالج فيه تاريخ علم البيان، وأما القسم الثاني ففيه دراسة مفصلة تحليلية معززة بالشواهد. 

  • معجم السفر والارتحال عند العامة
    معجم السفر والارتحال عند العامة

    معجم يتضمن ما ورد على ألسنة العامة من أمثال ومصطلحات أثناء سفرهم وارتحالهم وشرح تلك الأمثال، مع ذكر الأشعار والآثار المتعلقة بها.