يقول الحق تبارك وتعالى واصفاً القرآن الكريم: ﴿كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون﴾ (فصلت: 3)
ويقول: ﴿إنا أنزلنا قرآنا عربيا لعلكم تعقلون﴾ (يوسف: 2)، جاء في سورة الشعراء وصف اللسان بأنه عربي مبين في قوله تعالى: ﴿نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين﴾ (الشعراء: 193 - 195).
وجاء في الأثر: "تعلموا العربية وعلموها الناس".
ومما روي عن الإمام علي كرم الله وجهه قوله: "كلام العرب كالميزان الذي يعرف به الزيادة والنقصان، وهو أعذب من الماء، وأرق من الهواء، إن فسرته بذاته استصعب، وإن فسرته بغير معناه استحال، فالعرب أشجار، وكلامهم ثمار، يثمرون والناس يجنون، بقولهم يقولون، وإلى علمهم يصيرون"
ولنقرأ ما قاله أبو منصور الثعالبي النيسابوري: "من أحب الله تعالى، أحب رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أحب الرسول العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية، التي نزل بها أفضل الكتب على أفضل العرب والعجم، ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته إليها".
واللغة العربية لغة شرفها الله تعالى فأنزل بها كتاب الكريم، وتكفل بحفظة فأضفى عليها حفظًا إلهيًا أبديًّا سرمديًّا، واصطفها لتكون لغة البيان المبين والتعبير الأمين، إنها اللغة العربية لسان الإسلام، ولغة القرآن، ففي رحابها تبدو أبعاد حضارية، وتظهر ضرورات حاضرة تدعونا للاجتهاد في تعليمها ودرسها ومدارستها، ومن منطق هذا المفهوم في إطار الوعي الإسلامي المتنامي تأتي هذه الدراسة لتلقي على تلك الأبعاد والمبررات ضوءًا كاشفًا يبين لنا كيف نتفاعل ونتعامل مع لغة القرآن.
تأتي هذه الدراسة كاشفة عن الأبعاد الحضاريّة والضرورات الحاضرة لمسألة تعليم اللغة العربية لأبناء العالم الإسلاميّ في الوقت الراهن، وتسعى لإبراز المبررات التي تدعونا للاجتهاد في تعليم اللغة العربيّة وجعلها قضية كبرى من قضايا الساعة، وذلك دفعاً ورداً على المحاولات التي تريد النيل من اللغة العربيّة وتقليص دورها وحصرها في نطاق ضيق.
مشكلة البحث
تكمن الإشكالية العامة لهذا البحث في السؤال الأساسي الآتي: ما الضرورات الحاضرة التي تدعونا للسعي الجاد نحو تعليم اللغة العربية لأبناء العالم الإسلامي وما يتفرّع عنه من أسئلة فرعية مثل: هل هناك ثمة دواع حاضرة تقود أبناء العالم الإسلامي في الاتجاه المعاكس ضد اللغة العربية وتعليمها بوصفها لغة القرآن الكريم والإسلام؟!
وهل يمكننا الذود عن حياض اللغة بقدراتنا البشرية ضد محاولات الإعاقة التي تعوق استخدام اللّغة العربيّة لغة القرآن "تدريساً وتحاوراً" تلك الأسئلة التي تمثل الإشكاليّة العامة لهذا البحث، وما دعاني لدراسة هذا الموضوع ومعالجته هو محاولة الإجابة عن تلك الأسئلة: ملتزماً بموضوعيّة النقاش ودقة العرض وعدم الإطالة - وإن كان هذا الموضوع في حاجة إلى أكثر من دراسة جادة تتناول جوانب هذه القضية كافة بالمعالجة تنظيريًا وعمليًّا. راجياً من الله تعالى حسن التوفيق والقبول.
إن تعليم اللغة العربية لغة القرآن الكريم لشعوب العالم الإسلامي يعد ثغراً من ثغور الإسلام مثل الثغور الحربية تماماً التي تذود عن حياض الدين والعقيدة، فهو ثغر تظهر أهميته من كونه يقف صامداً في وجه دعاة التغريب والعلمنة، وبتر الدين وفصله عن الحياة المعاصرة، ثابتاً أمام هجمات جيوش الغزو الفكريّ الثقافيّ، التي تهدف إلى تدمير أجيال ومستقبل العالم الإسلامي، بعد أن فشلت عسكرياً في السيطرة بقوة السلاح والعتاد، فهذا الثغر مهم جداً، بل في غاية الأهمية في عصرنا الحاضر، ومن المفترض علينا بوصفنا مسلمين ألا نؤتى من قبله مهما كلفنا ذلك من جهد ومال، فنكون حماةً، مدافعين عن العقيدة الإسلامية، وذلك يكون بالجهاد والاجتهاد في عملية تعليم اللغة العربية لأبناء العالم الإسلامي وغيرهم المقبلين عليها قلباً، وقالباً، لأنها لغة أهل الجنة في الجنة، ولغة اللوح المحفوظ، المدونة بها الكتب السماوية، قبل نزولها على المرسلين، وهي لغة الحرف الشريف، كما يسميها أهل جنوب شرق آسيا، وهي لغة ناطقة بالإيمان، جامعة وموحدة لشعوب العالم الإسلامي - المختلفي الأجناس والألوان - برباط الدين الإسلامي خاتم الأديان.
تلك هي بعض المبررات التي، تجعل من مسألة تعليم اللغة العربية لأبناء العالم الإسلامي، قضية كبرى من قضايا الساعة، يحملها كل مؤمن خالص الإيمان، يذود عنها بما حباه الله تعالى من قدرات وإمكانات.
ولذا نحن نرى أن من أعظم واجبات المسلمين اليوم، أن يتخذوا اللغة العربية الأولى بينهم رابطة مقدسة بجانب لغاتهم المحلية في بلادهم، فمن الوفاء للإسلام أن تكون هي اللغة الأم الجامعة الرابطة بين شعوب العالم الإسلامي. فهي بذلك تُعَدُّ نعمة إلهية عظمى، أنعم الله تعالى بها على عباده، وشكرها يتطلب منا المزيد من الجهد المبذول لخدمتها تعليميًا وتعلُّمًا، وهي رابطة إيمانية ليس لها مثيل، حيث أرادها الله لنا بحيثية إنزال القرآن الكريم بها وحسب، فليست هي لغة عنصر معين أو جنس متميز، بل هي لغة العقيدة، ولغة الإسلام، والتشريع الربانيّ، والمعبرة عن جوانب الحضارة الإنسانية المحققة عمارة الأرض، والكون كله، انطلاقاً من مهمة استخلاف الإنسان محققاً بذاته مقاصد الشريعة السامية، وأيضًا حتى لا يتمكّن دعاة الغزو الفكريّ الغربيّ من السيطرة على عقول أبناء الأمة، بفصلها عن تراث الآباء الخالد، التراث الروحيّ والعطاء الفكري للأمة، محاولين فرض لغتهم وفكرهم وثقافتهم المخربة، التي تنطلق من تحقيق اللذة الآنية والمنفعة الحسية ملغية كل القيم والمبادئ الخلقية الدينية. وذلك له انعكاس سيء على أمة ذات منظور حضاري كالأمة الإسلامية، وبناءً على ذلك فإنه تبرز إشكالية تتمثل في الغزو الثقافي الذي يستهدف ضرب الأمة الإسلامية في العمق ضربات مخططة.
ومن هنا تبرز أهمية اللغة العربية وأهمية تعليمها لأبناء العالم الإسلامي لتقوم بدورها الرائد في إعادة ترابط الأمة، ووحدة كيانها، تحت لواء دستورها القرآن الكريم وتعاليم الشريعة السمحة، وحتى حتى لا يكون للآخر على الأمة الإسلامية من سبيل للسيطرة والإذعان، وحتى لا يقع بين المسلمين أنفسهم التصارع المؤدى إلى الانفصام والخصام، وبتوحّد لسان الأمة - ذلكم الأمر الذي نرجوه - سيحقق ربط الأمة الإسلامية ماضياً وحاضراً استرشاداً بالقيم الموروثة من تعاليم السماء مما سيعيد للأمة هويتها الفكريّة ومكانتها الرياديّة القياديّة في ظل وحدة لسانها العربي "المبين".
إن اللغة العربية هي أداة تثقيف الإنسان المسلم، وجعله ملماً إلماماً كافياً بقواعد الدين الشرعيّة، والسلوكيّة والاجتماعيّة، وتمده برصيد ضخم من الإمكانات اللسانية وملكات القول البليغ والخطاب الإنساني اللساني القادر المؤثر في نفوس السامعين الموجهة إليهم الدعوة الإسلامية، محققةّ طريق التواصل بين المرتبطين بدين الإسلام.
ولذا فواجب علينا اليوم، وفي مطلع القرن الحادي والعشرين، الذي أطل علينا، بما فيه من تحديات عصريّة، وما فيه من تقدم علمي متسارع الخطا نحو منطلقات تكنولوجية، واكتشافات لأجواز الفضاء، والوصول إلى المريخ، ففي ظل هذه الحياة يجدر بنا أن نكون في الركاب وأن تدخل اللغة العربية عصر التحديات والمنطلقات المستقبلية، وذلك في أسلوب تعليمها وتعلمها، لأبناء العالم الإسلامي اليوم، خاصة وأن ومنهم دولاً صاعدةً صعوداً متلاحقاً مع تطورات وتقنيات الحضارة الحديثة مثل: ماليزيا وإندونيسيا وهما من الدول النمور كما يطلق عليهما.
وإن عملية تقديم اللغة العربية تعليماً وتعلماً، في ظل تلك الظروف السابقة تنطلق من أبعاد حاضرة، وضرورات حضارية، غايتها إعلاء كلمة الحق، ونشر الشريعة الإسلامية، ذات الحضارة الفاعلة والمكونات الإيمانية، التي تعلى من قدر وقيمة الإنسان المستخلف لعمارة الكون وفقاً للتصور الإسلامي بغض النظر عن لونه وجنسه.
وتلك الأبعاد الحاضرة، تمثلها عدة أبعاد كل بُعد منها يقودنا لبعد آخر، ونحن نحاول التعرض لبعضها مع شيء من التفسير الذي يجلّيها ويوضحها ويجعلها ماثلة حاضرة في الأذهان والأعيان وهي تتمثل فيما يلي:
لقد نالت اللغة العربية بفضل القرآن الكريم شهرة واسعة وانتشاراً عظيماً بين ربوع العالم، فهي لغة ربانيّة اختارها الله تعالى لحفظ دستور الأمة، ومنهاجها التشريعيّ السماويّ، ألا وهو القرآن الكريم، كلام الله تعالى المعجز بنصه ولفظه ومعناه، الذي أعجز أساطين البلاغة العرب المفوهين أن يأتوا بسورة مثله أو آية منه، وتحيروا أمام بلاغته وأسلوب نظمه، فأقروا بعجزهم معترفين بإعجازه العظيم، فخروا من رهبته ساجدين طائعين مختارين، ولقد أدرك المسلمون جميعاً ذلك البعد وقيمته وتأثيره، فتمسكوا بلغة القرآن الكريم، فعملوا على حفظها، وتدريسها، وتعليمها، بل حرص أبناء الإسلام من غير العرب عليها، حرص العرب أنفسهم، وجعلوها لغة التخاطب اليومي والوعظ، والإرشاد، والدرس، والتدريس، فضلاً عن كونها لغة العبادة والمناسك والمشاعر المقدسة، فهم اليوم انطلاقاً من هذا البعد، لابُدّ أن يسعوا جاهدين في سبيل نشرها وإعلائها حاملة كلمة الله العليا للبشرية جمعاء، مبشرين بها، داعين إلى الفوز بالنعيم الأخروي المقيم، مخرجين الناس من ظلمات الجهل وغياهب الضلال إلى أنوار اليقين القرآنيّ ذلك النبأ العظيم.
وعلى العكس من ذلك الاهتمام النابع من صدق العقيدة، نجد أعداء اللغة العربية هم أنفسهم أعداء الإسلام الحنيف قد أدركوا ذلك الأمر، فحاولوا الكيد والطعن، ولم يفلحوا، بل وناصبوا اللغة العداء المستحكم الذي تزكيه بواعث الحقد والضغائن وناصبوا أهلها العداء من أجل القضاء عليهم وعلى لغتهم القرآنيّة، ولكنهم فشلوا، وذهبت أحقادهم أدراج الرياح، ورد الله كيدهم وغيظهم ولم ينالوا منها شيئاً، وتكفل الله تعالى وحده بحفظها وجعلها تعلو وتنمو وتنتشر بفضل القرآن الكريم والذكر الحكيم الذي كتب الله تعالى له الخلود والسمو والحفظ من كل كيد، قال الله تعالى: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ (الحجر: 9).
فهذا الذكر والكتاب مهمته العظمى هي إخراج الناس من الظلمات إلى النور فقال الله تعالى: ﴿الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد﴾ (إبراهيم: 1)، وكذلك هو كتاب محكم الآيات مفصل ﴿الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير﴾ (هود: 1).
هذا وإن واطلاق "لغة القرآن" على اللغة العربية لم يأت من فراغ، بل كان هذا الإطلاق لدواع منها: "أن ألفاظ القرآن العربية ومعانيها كلاهما منزل من عند الله تعالى بألفاظه الموجودة في المصحف والرسول تلقاه عن جبريل بهذه الألفاظ، فليس لجبريل ولا للرسول أي عمل في نظم القرآن، وإنما كان على جبريل قاصرًا على تلقيه من الله عزوجل وتبليغه للرسول كما تلقاه".
ومن هذا نفهم القرآن الكريم عربي في اللوح المحفوظ عربي عند إنزاله بواسطة جبريل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، عربي في إبلاغه للناس كافة بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل من لغة إلى أخرى بواسط ترجمة، بل عربي عربي عربي، وهذا دليل على شرافة اللغة العربية وعظم شأنها.
ولذلك فواجبنا نحو هذه اللغة العربية والتي حملت كلام الله تعالى، أن تكون في أعيننا حفظاً ووعياً بدورها وعنايةً بها والعمل على تعليمها لأبناء العالم بأسره، وألا نقصر ونتكاسل في السعي من أجل إيصالها ونشرها حاملة بلاغ الدين والإيمان في كل زمان ومكان للبشرية جمعاء، وفي هذا يقول القاضي الباقلاني: "من أهم ما يجب على أهل دين الله كشفه، وأولى ما يلزم بحثه، ما كان لأصل دينهم قواماً، ولقاعدة توحيدهم عماداً ونظاماً، وعلى صدق نبيهم r برهاناً، ولمعجزته ثبتاً وحجةً".
مما لا شك فيه ولا خفاء أن اللغة العربية هي لغة الإيمان والمؤمنين فهي تُعدّ لغة الإنسانية المؤمنة، لكونها وعاء الحضارة الإسلامية والتي حملت أوامر السماء إلى البشر كافة، وهي التي عبرت عن جوامع كلم النبي الأمي صلى الله عليه وسلم وهي اللغة العربية لغة الإيمان بكل المعاني، والتي استوعبت تراث المسلمين الحضاري الشامل، فقهاً، وعلماً وتفسيراً وحديثاً وتفكيراً فلسفياً، ومازالت تحمل ذلك إلى اليوم، وإلى ما شاء الله لها أن تكون، حاملةً أمانة العلم، والأدب والصنائع العمرانية، ومبادئ التحضر الإنساني الهادف إلى غايات الارتقاء فوق كل المعطيات، وعياً بدورها الذي لابُدّ له أن ينطلق ويتحرر من أسر المناهج التقليدية، والمناهج الغربية المادية الملحدة، وفي الحقيقة أن الجميع يقرّون بأن اللغة العربية تنتشر معبرةً عن مشاعر الإيمان، بالله تعالى رباً، والإذعان لمشيئته والإخلاص له في السر والعلن، بكل المشاعر جامعةً تحت لوائها شعوباً تفتخر بكونها مؤمنةً بإله واحد، خالق قادر، مدبر لأمر هذا الكون، وأن أمة الإسلام تعتز اعتزازاً شديداً بلغتها العربية، اللغة الدينية ذات الجذر التوحيدي الإيماني العميق الضارب في الأغوار السحيقة صانعاً من اللغة رباطاً إيمانياً مقدساً فتعتز الأمة بها كل الاعتزاز، وحَرِيّ بنا اليوم أن نتأسى بالسلف الصالح في اهتمامهم باللغة العربية، وأن نقتدي بهم في سلوكهم تجاه اللغة العربية المتمثل في :
- العناية بتعليمها وتدريسها وفهم جوانب الإبداع فيها.
- حفظ الأشعار العربية والاستشهاد بجيد الشعر في المناسبات المختلفة، والإثابة والمكافأة على قول وإنشاد الشعر العربي المبدع والطرب له.
- البحث والمناظرة في اللغة العربيّة ودراسة فروعها دراسةً واعيةً راميةً إلى إبراز مواطن الجمال ونواحي التميز في هذه العلوم وهي (البلاغة، البيان، المعاني، النحو، الدلالة اللغوية وفقه اللغة وأصولها …إلخ)، وذلك في مراحل دراسيّة متقدمة بعد إعطاء الطلاب الجرعة الكافية من التأسيس اللغوي لديهم.
فالعربيّة إذاً تمتلك قدرات الاستيعاب والتواصل، والترابط الإيماني بين الأمة الإسلامية، وهذا في حقيقة الأمر بُعْدٌ غائب عن الأذهان في عصرنا الراهن، والإشارة هنا إلى ذلك هي مجرّد لفتة طموحة تهدف إلى فهم واقعنا المعاصر بغية الخروج من الأزمة التي سادت ربوع الأمة الإسلامية، وذلك بالرجوع إلى لغة الإيمان والحضارة، والتي أهملناها حتى في محافلنا الرسمية، وصرنا نستعيض عنها بلغات بشرية، ليس فيها معطيات إيمانية صادقة، وعلى سبيل المثال نجد الأباء يعتنون بتعليم أولادهم في مدارس أجنبية تعلم اللغات الأجنبية ويهملون تعليمهم اللغة العربية لغة القرآن.
والحقيقة التي نود أن نشير إليها هنا في ذلكم الإيطار الإيماني هي: أن اللسان العربي، لا غنى عنه لمسلم، أياً كان جنسه أو لونه، طالما أن العربية هي لغة العبادة وممارسة الشعائر الدينية، ولا يكتفي هنا في هذا المجال بمجرد معرفة قراءة سورة الفاتحة، وقصار السور، أو بعض الأدعية بالعربية، إذ يثور الآن تساؤل: كيف يعبد الله حق عبادة؟ وكيف يتلى ويفهم القرآن الكريم، بغير معرفة العربية، معرفة تامة؟! أما عن المعرفة السطحية، والقشرية الظاهرية، للغة العربية فلا تغني شيئاً ولا تؤتى ثمارها في ربط أبناء الدين الواحد، برباط الإيمان القلبي الذي يظهر في السلوك ويؤدي إلى تحقق الأخوة الكاملة والإعاشة السوية، بين أبناء أمة التوحيد والإيمان، وفهماً لمعطيات القرآن الكريم يجب علينا أن نعتني باللغة العربية أشد عناية تعليماً وتعلماً قدوةً وسلوكاً.
ويؤكد هذا الدكتور محمد عبد الرؤوف بقوله "إن إجادة الداعية المسلم للغة العربية أمر أساسي لإدراك المفاهيم الإسلامية، ووعيها وعياً صحيحاً سليماً وواضحاً لنقل الرسالة الإسلامية وإبلاغها كاملةً من غير تحريف أو تشويه".
بما أن العالم اليوم صار، وكأنه قرية صغرى مفتوحة، فتقاربت الشعوب المتباعدة، وذابت الفوارق والحدود، وحلت العلاقات والاتصالات العلمية والسلمية، محل الحروب والعداوات والمنافرات، إلى حد ما، وذلك بين الشعوب التي لا رابطة تجمعها ولا عقيدة دينية توحدها، على مستوى العالم المعاصر، ونظرة إلى شعوب العالم الإسلامي اليوم تجدها مفككة متعادية، كل جارتين مسلمتين تجد بنيهما فرقةً وخصامًا وتقاتلاً وتقاطعًا مريرًا يزكيه العدو وتلهبه العصبة العمياء.
أرأيت ذلك يكون بين أمة دينها واحد وربها واحد ولسانها واحد ورسولها واحد وقبلتها واحدة ومشاعرها المقدسة واحدة؟! فتلك عوامل التوحد، لا التعدد، والترابط لا التفكك، والفهم لا الجهل، والتواصل لا التقاطع، وسبب ذلك في نظرنا هو إهمال اللغة العربية، جانباً وإخراجها من ساحتها وميدانها العملي الذي يهدف إلى تحقيق الوحدة والترابط والتماسك، واليوم نرى الأمة تحاول استعادة وعيها والإفاقة من سباتها العميق، على اختلاف أجناسها - فتطمح في إيجاد الرابطة القوية، والآصرة السوية، المتمة للسيادة، المحققة للسعادة الأبدية، المسيرة للتعامل بين الجميع، الهادفة إلى تحقيق العمران البشري والاستخلاف الإنساني لإعمار الكون كله ألا وهي رابطة اللغة، الرابطة المتينة، التي لا تفكك في التمسك بها، فهي التي تؤدى إلى وحدة الفهم والتفاهم، وسرعة الترابط وقوة التضامّ والتماسك والمؤاخاة بين أبناء العالم الإسلامي المترامي الأطراف، وإلى هذا يشيرُ محمد أكرم سعد الدين بقوله:
"ولعله من الإنصاف أن نقول: إن اللغة العربية قد تخلت عن ارتباطها الإقليمي يوم أن أنزل الله القرآن الكريم بها ولا حاجة بنا إلى مناقشة هذا الأمر مطولاً فيكفي القارئ أن يرجع إلى القرآن الكريم وبخاصة سورة يوسف ﴿إنا أنزلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون﴾ (يوسف: 2) ﴿وكذلك أنزلناه حكماً عربياً﴾ (الرعد: 37) ﴿وهذا لسان عربيٌّ مبين﴾ (النحل: 103) ﴿وإنه لتنـزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين﴾ (الشعراء : 192-195) ﴿كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون﴾ (فصلت : 2) ﴿وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها﴾ (الشورى: 7) ﴿وهذا كتاب مُصدًّقٌ لساناً عربياً لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين﴾ (الأحقاف: 12).
ويقول الدكتور عبد الرؤوف: كما أن اللغة العربية لغة كتاب الله وتراث نبيه كانت وما زالت عامل وحدة فاعلة بين المسلمين تؤلّف بينهم وتزيل بشكل طبيعي العوائق التي تقف في طريق تحقيق الوحدة الإسلامية المنشودة.
من الواضح البين والذي يمكن أن نقوله ووكلنا ثقة: إن قراء العربية اليوم والذين يستلهمون تراثها الحضاري والتاريخي السابق لا يعوزهم الدليل على أن في اللغة العربية من التمايز والخصوصيات ألواناً وأنواعاً، لا توجد في غيرها من اللغات في العالم قديمه وحديثه على وجه الأرض، ذلك أن هذه الخصوصيات والمميزات التي تنفرد بها العربية، لهي التي أهلّتها لأن تكون لغة الحضارة الإيمانية، والتي تنطلق من مرتكزات عقيدية مؤصلة في نفوس المسلمين ومن خلال تلك المرتكزات والثوابت صارت بلا منازع لغة الحضارة، حيث أنتجت الشعوب الناطقة بها حضارة إنسانية استيعابية شاملة مازال فضلها لا ينكر!
ويذكر الدكتور أحمد طاهر حسين أنه "لم تعد العربية الآن محصورة في حدود جغرافية ضيقة فلقد تجاوزت كل الحدود التقليدية وصادفت إقبالاً منقطع النظير من الأمم الإفريقية والآسيوية، وفي أوروبا وأمريكا على السواء"،
هذا وهناك من العلماء من ينـزل اللغة العربية منـزلةً فوق لغته الأم وذلك شأن كثير من علماء المسلمين من غير العرب أمثال: سيبويه، والفارابي وابن سينا، والرازي وغيرهم، ولقد كان أبو حاتم الرازي واحداً من علماء العربية المبرزين يرى أن اللغة العربية تسمو على كل لغات البشر، فهي في القمة العلياء، بينما تحتل العبرية والسريانية والفارسية مراتب أدنى، وكان يرى أيضاً أن الهندية واليونانية ليس لهما أي فضل ويتضح ذلك من قوله في كتابه "الزينة" فيقول: "إن أفضل اللغات الأربع - لغة العرب وهي أفصح اللغات، وأكملها، وأتمها، وأعذبها وأبينها ]أكثرها بياناً[، ولم يحرص الناس على تعلم شيء من اللغات، في دهر من الدهور، ولا في وقت من الأوقات كحرصهم على تعلم لغة العرب، ولا رغبوا في شيء من القرون والأزمنة رغبة هذه الأمة، في لسان العرب من بين الألسنة، حتى أن جميع الأمم فيها راغبون، وعليها مقبلون، ولها بالفضل مقرون، وبفصاحتها معترفون".
وقال أيضاً إن أفضل ألسنة الأمم كلها أربعة: العربية، العبرانية، السريانية، الفارسية"
ومن سمات وملامح هذا التمايز الذي انفردت به اللغة العربية: كونها وعاء الرسالة المحمدية الخاتمة، فهي الوسيلة التي حملت تعاليم الإسلام إلى ملايين البشر، وبها نزل القرآن الكريم ولقد صمدت صموداً لا يتزعزع أبداً وبقيت حية منطوقة ملء الأذهان والأعيان عبر الأزمان، بينما اندثرت لغات كثيرة وبادت ألسن أخرى وصارت طي النسيان على مدى الأيام، ولو أن لغةً ما قُدِّر لها أن تستمر إلى اليوم فلن تكون كما كانت محافظة على أصالتها الأولى فلابد أن تصاب بالتحريف والتبديل ولا يكون لها ثبات على أصل واحد، ذلك مثلما ما حدث مع اللغة العبرية فعبرية اليوم ليست هي عبرية الماضي وشتان ما بينهما، فلقد تميزت اللغة العربية بسمة هي اتصال ماضيها بحاضرها دون فصام.
ومن تمايزها أيضاً، أنها صارت لغة البلاد الإسلامية التي فتحت على أيدي المسلمين الأوائل، والبلاد التي وصلها أبناء المسلمين الأوائل كالتجار والرحالة وغيرهم ممن كانوا قدوة لأهل تلك البلاد، فأقبل أهل هذه البلدان على اللغة العربية، وصاروا يستخدمونها: تحدثاً وكتابةً وتعليماً وتعلماً، لا فرق في ذلك بين عربي أو عجمي، بل شواهد التاريخ لتؤكد لنا تفوّق أبناء العجم المسلمين على غيرهم في اللغة العربية ويؤكد ذلك إنتاجهم الفكري والفلسفي الذي يغطي جوانب التراث المختلفة، كان ذلك الإنتاج باللغة العربية الفصحى حيث كانت العربية هي اللغة السائدة في المشرق يتحدث بها العرب الصرحاء والعرب بالولاء، كما كانت لغة التدريس والوعظ والتذكير والإملاء وكانت بالطبع لغة الأدب والشعر والتأليف، والتصنيف، حيث دونت بها جميع العلوم الدينية واللسانية، والعلوم الدنيوية البحتة كلها، وكانت هذه العلوم تدرس في مدارس الشرق باللغة العربية لأنها لغة القرآن، أما اللغات المحلية فكانت في العصور الإسلامية الأولى يعدها أهلها لغة الوثنية، ولذلك عملوا على تعلّم وتعليم العربية وآدابها فنبغ فيها منهم علماء أعلام.
هذا فضلاً عن أن اللغات القومية للبلاد المفتوحة قد تحلت وتزينت بالعديد من الألفاظ والتراكيب المستمدة من اللغة العربية مقترضة إيّاها من لغة القرآن الكريم لاستخدامها في الحياة اليومية وليس فقط في الشعائر والعبادات، فإنك تجد اللغات مثل: الفارسية، والتركية، والسواحيلية، والملايوية، والأوردية، والهندية، بل واللغات الأروبية حافلةً بالألفاظ العربية ومستخدمة بالمعنى نفسه الذي وضعت له في اللغة العربية، حيث دخلت تلك الألفاظ مع الدين الإسلامي إلى هذه الأمم و الشعوب وخاصةً الألفاظ والكلمات المتعلقة بالعبادات والشعائر الإسلامية، وليس ذلك فقط، بل نجد هذه لغات اقترضت الكثير من الكلمات العربية غير المرتبطة بالعبادات، فاللغة الملايوية مثلاً تجدها بالإضافة إلى الألفاظ الدينية المتصلة بالعبادات والشعائر والأحكام الدينية قد اقترضت ألفاظاً غير ذات ارتباطات دينية، حيث استولت لغة القرآن على جوانب حياتية شتى وغزت كل مجالات حياة المجتمع الملايوي، فالكلمات العربية تستخدم حتى الآن في الحديث اليومي مع اختلاف يسير في نطقها والمعنى نفسه هو هو كما في العربية نذكر بعضاً من هذه الكلمات على سبيل المثال:
"أبد - Abad ، أدب – Adab ، أخلاق - Akhlak، دولة - Daulat، أساس - Asas، تهنئة – Tahniah ، أستاذ - Ustaz، إعلان – Iklan ، أهلي – Ahli ، أصلي - Asli، جدول – Jadual ، أول – Awal ، تكافل – Takaful ، آخر – Akhir ، تمدن – Tamadun ، جنس – Jenis ، ديوان – Dewan ، ... إلخ".
ولهذا تجد كثيراً من الناس يتساءلون: ما الذي جعل العربية تنفرد بهذا الدور الخطير، وتأسر القلوب وتطرد غيرها من اللغات من الساحة أمامها؟!
نحاول الإجابة فنقول: إن الذي ميزها وأعطاها هذه الخصوصيات المميزة لها عن غيرها هي أنها تتميز بعدة سمات وخصائص تكمن فيها قد أهلتها للقيام بهذا الدور الريادي الذكي فها هي تلكم الخصائص ونسردها هنا باختصار:
- فهي لغة القرآن الكريم – كلام الله تعالى - والسنة المطهرة.
- لغة التخاطب المشتركة بين ملايين المسلمين.
- لغة العبادات والمشاعر المقدسة.
- لغة لم يصبها التحريف والتبديل. محفوظة بالحفظ الإلهي، لغة الحرف الشريف.
- لغة متواصلة عبر الأجيال مفهومة في كل مجال.
- كاملة متماسكة لا يعيبها نقصان.
- لغة حضارية تستوعب التجديد.
- الإعراب، الترادف، الاشتقاق، التعريب…إلخ.
ب) خصائص أخرى: وفضلاً عن تلك الخصائص فإن هناك خصائص أخرى مثل نودرها على سبيل المثال لا الحصر مثل:
1- صدق ودلالة التعبير.
2- اللفظ بقدر المعنى (زيادة في المبني تؤدي إلى زيادة المعنى).
3- الإطلاق والتقييد، اللفظ (مطلق، مقيد).
4- التخفيف والتشديد، الإفادة التوكيد وتقوية المعنى.
5- اللفظ الواحد يؤدي عدة معانٍ وفي كل سياق له مضمون ومفهوم متجدد.
6- السهولة التعبيرية ودرجة مفهومية الخطاب.
7- الشاعرية المعبرة الممزوجة بالساحرية والبيانية والآسرة والمؤثرة مع التلقائية النابعة من السجية.
8- الاستعارات العجيبة، والكنايات المفيدة، والمجاز والحقيقة.
9- الذوق والجمال ومدى الإحساس بهما لدى المرسل والمستقبل.
10- القدرة المنطقية على الاحتجاج والاستدلال وإقامة البرهان.
11- لغة التعبير عن الواحد (المفرد) والمشارك (المثنى) أو(الجمع).
12- لغة المواقف: الاستفهام وأنواعه، التقريرية، الاستدراك والاحترام، الاستنكار، الإخبار الاستخبار، التعجب، المدح، الذم …إلخ.
13- لغة الصوت الخفيف على الأذن والحرف الذي يتكامل مع الصوت فالصوت يعبر عن الحرف ومعناه من همس وجهر ونبر وقطع وتفخيم وترقيق. ونذكر هنا ما قاله الأستاذ الدكتور الطويل: "صوتيان اللسان العربي سهلة سمحة ميسورة لا تحس عند النطق باللفظ بإرهاق يلم بعضلات اللسان والفم وسائر مخارج الحروف، بل تناسب الكلمات انسياب الماء في سلاسة وسخاء، ولكل حرف صفات متنوعة تجعل للكلمة العربية قيمة تعبيرية، ودلالية واسعة وثروتها في المفردات شاملة، واعية غزيرة فياضية".
14- لغة المشاعر الوجدانية، والأحاسيس العاطفية المتنوعة. (لغة غنائية شعرية).
15- ومن الثبات أن هذه الخصائص لا تشاركها فيها أية لغة بهذا القدر.
وإن أهم خاصية من تلك الخصائص - وكلها مهمّ - هي خاصية الإعراب، حيث تميزت بها اللغة العربيّة دون سواها وجعلت هويتها خاصة بها مما ساعدها على الحفاظ على ذاتية وتواصل اللغة العربيّة، ودعّمت مركزها ودورها كما ساعدت هذه الخاصية على القيام بوظيفة اللغة العربيّة خير قيام في التواصل بين شعوب العالم المسلمة.
ولتلك الخصائص السابقة الذكر مجتمعة ومنفردة في آن واحد، دور في غاية الأهمية من أجل تطور اللغة العربية واتساعها وشمولها ووفائها بمطالب العصر واستيعاب للعلوم العصرية والفنون المتنوعة، مما أكسبها هذا التمايز وهذه المقدرة الفائقة على تشكيل وجدان وعقل إنسان الحضارة المسلم العربي والعجمي على السواء.
"لا مبالغة في القول إن اللغة العربية هي لغة الأعاجيب في وضعها المحكم وتنسيقها الدقيق، فمن استطاع أن يتجلى غوامضها، ويستقري دقائقها ويلمَّ بما هنالك من حكمة وفلسفة وبيان للدقائق وأسبابها المنطبقة على العقل والمنطق استيقن أن العربية قد وضعت بإلهام من المبدع الحكيم جلت قدرته فالمحدِّث عنها كالمحدِّث عن السماء وكواكبها وبروجها ونظامها الفلكي يذكر الأقل ويندُّ عنه الأكثر، أو كالمحدِّث عن البحر الجياش الدائم الجزر والمد، يقول شيئاً وتقوته أشياء"
لقد تعددت محاولات ترجمة القرآن الكريم* إلى غير العربية من لغات بغية التسهيل والتيسير، ولكن منذ القديم يثور الجدل حول ذلك ما بين مؤيد ومعارض على المستوى الفقهي وهذا ليس من سبيلنا الآن التعرض له في هذه الدراسة، وما نود أن نقوله: إنه كانت هناك عدة محاولات فرديّة ومؤسسيّة سعت كل السعي من أجل ذلك، وكان ذلك جهداً مشكوراً لنشر ترجمات القرآن الكريم بلغات العالم بين الأمم الإسلامية، ولكنها لم تؤدِّ أغراضها المنشودة بنجاح تام، وذلك لأن الترجمة عاجزة عجزاً بيناً عن نقل المعاني القرآنية السامية والمعبرة عن حقيقة مراد الله تعالى منها.
والحقيقة أن الترجمة عن نقل المعاني المرادة من حقيقة الكلام على المستوى البشري لعاجزة عن ذلك تماماً، ومن ثَمّ يكون العجز أكبر وأثقل حينما يحاول بشر أن ينقل القرآن الكريم من لغته الأصل اللغة العربية إلى لغة أخرى، وهو الكلام الرباني الإلهي الفائق المتفوق والمعجز نصاً ولفظاً ومعنىً إلى لغة أخرى من لغته الأصل العربية فلن يفهم وسيكون التعبير سطحياً غير معبر عن المعاني القرآنية السامية والتي يتذوقها كل إنسان بما حباه الله تعالى من عطاء في الفهم واتساع في الفكر العقلي للاستيعاب والتدبر والتأمل والتفكر والحضور.
ومن هنا يأتي وينبع اهتمام أبناء الشعوب الإسلامية في البلدان الغير عربية باللغة العربية لغة القرآن الكريم* وذلك رغبةً منهم في فهم المراد الحقيقي من كلام الله تعالى مباشرة، وسعيًا لتذوق حلاوته وجماله والإحساس بعطاءات الله دون واسطة الترجمة، فهم يرغبون في مباشرة فهم القرآن الكريم عن طريقة الحقيقية ألا وهي اللغة العربية الخالدة، وإن محاولات فهم القرآن عن طريق الترجمات تشوّه المعنى وتضيع المطلوب وتفقد الأسلوب جماله وبلاغته وشفافيته ونفاذه إلي القلوب والأفئدة، ونحن لا ننفي فائدة الترجمة على إطلاقها فهي أيضاً تكون مهمةً وذلك في المراحل الأولى للمساعدة في فهم المعاني لمن لا يحسن اللغة العربية ابتداءً حتى يتعلمها ويتقنها فحينئذٍ لا يحتاج إلى الترجمة.
ويقول الدكتور محمد أكرم سعد الدين: "ولا مندوحة من القول إنه إذا أراد المسلمون ألاّ يكونوا مجرّد مرددين لرسالة القرآن الصوتية فلا محيد لهم عن تعلم لغة القرآن، فالقرآن الكريم هو كلام الله سبحانه وتعالى الذي أنزله على رسوله خاتم الأنبياء والمرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم، وكذلك فإن القرآن الكريم والسنة هما ميثاق الإيمان وعهد المسلمين على طاعة الرحمن عز وجل، وهما ميثاق الإيمان بين أبناء الأمة الإسلامية ولعله من نافلة القول أن نشير إلى أن القرآن الكريم يستعصي على الترجمة مما يعني أن استخدام ترجمة المعاني في العبادات والاستشهاد أمران مرفوضان جملةً وتفصيلاً، لأن الترجمة تحمل في طياتها معنى التكافؤ ولأن ترجمة المعاني تحمل في طياتها مفهوم قيام المفسر والمترجم بغرض رؤيتهما الخاصة على معاني القرآن الكريم مما لا يعنى بالضرورة حفظ الترجمة على شمولية المعنى القرآني وليس بنا حاجة أن نضيف أيضاً أن فهم تعاليم القرآن، إنما تكون في أضمن حالاته حين يستقي من مصدره المباشر لا من مصادر ثانوية أو ثالثية".
ومن المعلوم عند علماء الأصول أن "ترجمة القرآن بلغة أخرى غير العربية لاتسمى قرآنا ولا يكون لها حكم من أحكامه، فلا يصح الاعتماد عليها في استنباط الأحكام، يستوي في ذلك الترجمة الحرفية والترجمة غير الحرفية، وذلك لأن الترجمة تعتمد على التفسير وفهم المراد من الآيات، والتعبير عنه بلغة أخرى وكلاهما يحتمل الخطأ، ومع قيام هذا الاحتمال لا يصح الاعتماد على الترجمة في أخذ الأحكام منها".
وبناءً على هذه النظرة الدقيقة والفهم المتكامل لضرورة تعليم اللغة العربية وتعلمها لدى أبناء العالم الإسلامي حتى يتمكنوا التمكن التام من فهم الشريعة وأحكمها الربانية ومراداتها من خلال فهم القرآن الكريم بلغته المباشرة المعبرة "العربية" وحتى تستقي معاني القرآن الكريم الصحيحة مباشرة دون اختلاف فهم المترجم وفهم قارئ الترجمة، هذا الاختلاف الذي يمثل عامل إعاقة تعوق تمام عملية الفهم المطلوب، فترجمات القرآن الكريم المعروفة الآن في الأوساط الإسلامية ما هي إلاّ تفسيرات لمعاني القرآن الكريم، وكل ترجمة منها تحمل آثار ميول المترجم نفسه، أي تتأثر بتحييز المترجم لميول فكريّة عقديّة كالنـزعة العقلانيّة الاعتزالية عند البعض منهم، وهذا مما قد يؤثر على قارئ ومستخدم الترجمة فيتبني فكر المترجم ويفهم أنه هو المراد من القرآن الكريم، والصحيح إن الترجمات ما هي إلاّ محاولات اجتهادية تفسيريّة لمعاني القرآن الكريم.
للقرآن أسلوبه الخاص في التعبير والإعجاز البلاغي مما يميزه عن غيره من الأساليب، وفي الحقيقة أن غاية كل مسلم عربياً كان أو متحدثاً بلغة أخرى أن يقرأ القرآن وأن يستوعب معانيه، وهناك أيضاً كثيرون من أهل الكتاب والديانات والملل الأخرى لديهم رغبة في التعريف على الإسلام وكتابه المقدس، ولكنه اللغة تقف حائلاً أمام تحقيق هدفهم هذا، والمطلوب إذًا هو إيجاد ترجمة تنقل إلى هؤلاء الراغبين من المسلمين ومن غيرهم معاني القرآن الكريم، هذا مع ا