يعرف ابن جني اللغة بأنها: "أصوات يعبر بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم"(sapir) بأنها: "وسيلة إنسانية محضة، غير غريزية لإيصال الأفكار، والعواطف، والرغبات عن طريق نظام من الإشارات المقصودة"
إذن الجانب الصوتي هو المكون الأساس للغة خاصة اللغة العربية التي يلعب الجانب الصوتي بحروفه وحركاته ومكوناته وعناصره دورًا مهمًا في تكوين الدلالة وبنائها؛ لذلك فإن اللغة العربية اعتمد أهلها كثيرًا على هذا الجانب اللغوي في التواصل اللغوي وتحقيق الدلالة المقصودة؛ فلعبت المشافهة كما لعب السماع دورًا مهمًا في التشكيل الدلالي للعربية.
من هنا كان الاهتمام بهذا الجانب الحيوي والمهم في العربية في العملية التعليمية ضروريًّا ومهمًا وفي تحقيق عملية التواصل اللغوي السليم؛ فاللغة العربية لغة شفاهية وسماعية لعبت المشافهة والسماع دورًا مهمًا في تاريخ العربية الطويل منذ العصر الجاهلية ولا يزال وسيظل بسبب هذا المكون الدلالي الخاص بتلك اللغة.
ويدرك الجميع أن العنصر الحي للغة يتمثل في الجانب الاستعمالي في اللغة أما الجانب الكتابي فهو جانب سكوني للغة ولا يعدُّ جانبًا حيويًّا كالجانب الصوتي والشفاهي للغة؛ لأن الحروف الكتابية ماهي إلا رموز للأصوات اللغوية وليست هي هي بالفعل.
ويقول الدكتور كمال بشر: "وما نظن أن أحدًا من الدارسين العارفين يشك في أن كثيرًا من مسائل الصرف العربي بالذات لا تتأتى دراستها دراسة دقيقة إلا بالاعتماد على القوانين الصوتية، وأخذها في الحسبان في كل مراحل الدرس، فمسائل الإعلال (بنوعيه) والإبدال مثلاً في مسيس الحاجة إلى معرفة جيدة بالأصوات وخواصها، وإلى الرجوع إلى القواعد الصوتية للغة العربية للاسترشاد بها في تحليلها، إذا كان لنا أن نعالجها معالجة لغوية صحيحة"([4]).
إن إدراكنا لهذا الجانب المهم والأساس من جوانب اللغة العربية لابد أن يدفعنا للاهتمام به والتركيز عليه ووضعه في دائرة الضوء عن إقرار أي وسيلة تعليمية لهذه اللغة، وتاريخ العربية وتعلمها وتعليمها شاهد عدل على ذلك.
إن معايشة طالب العربية لبيئة لغوية سليمة عن طريق المشافهة والسماع ومخالطة الفصحاء هو السبيل الصحيح لتعلم العربية على كافة المستويات اللغوية الصوتية والبنائية والدلالية؛ ذلك لأن اللغة العربية لغة شفاهية تعتمد أكثر ما تعتمد على الجوانب الشفاهية والخصائص الصوتية، فالجانب الصوتي جانب مهم في تحديد الدلالة اللغوية فيها؛ لذا وجب على متعلم العربية الذي يسعى لتحقيق مستوى تعلمي عالٍ في تلك اللغة أن يعايش نماذج لغوية سليمة وأن يعايش بيئة لغوية سليمة ليتمكن من التعلم الصحيح لتلك اللغة، وذلك عن طريق الاستماع لنصوص لغوية سليمة، وقد روى سامح عبدالحميد في كتابه (كيف تكون فصيحًا؟) بعض الأخبار والآثار التي تؤكد على دور المشافهة والسماع المهم في عملية التعلم لا على مستوى اللغة وحسب بل على المستوى العام للتعلم، فيقول: "قال إبراهيم النخعي: "من سره أن يحفظ الحديث فليحدث به، ولو أن يُحَدِّث به من لا يشتهيه، فإنه إذا فعل ذلك كان كالكتاب في صدره"، وكان الزهري رحمه اله بعدما يسمع من سعيد بن المسيب يأتي الدار فيوقظ الجارية، فتقول: ماذا تريد يا سيدي؟ فيقول: اجلسي، حدثني سعيد بن المسيب قال: حدثني أبو هريرة ... ويسوق الأحاديث، فتقول: يا سيدي ما لي ولسعيد؟!، فيقول: آفة العلم النسيان وحياته المذاكرة، وأخشى أن أنسى"، ويقول في موضع آخر: "قيل للمهلِّب: بِمَ أدركت؟ قال: بالعلم، قيل له: فإنَّ غيرك قد علم أكثر مما علمت، ولم يدرك ما أدركت، قال: ذلك علم حُمِلَ، وهذا علم استعمل"([5]
وقد ذكرن أمثلة من هذا الجانب في تاريخ اللغة العربية؛ فالعرب القرشيون القدامى - وهم أكثر دراية بواقع لغتهم وحقيقتها - يختارون لأبنائهم بيئة لغوية سليمة يتلقون منها تعليمهم؛ لذا كان اختيارهم بني سعد الذين يمثلون البيئة اللغوية النقية لرضاعة أبنائهم وتنشئتهم تنشئة لغوية سليمة تعتمد على المعايشة والسماع.
وعلى المستوى الفني والإبداعي للغة تأتي رواية الأشعار وملازمة الشعراء سبيلاً لتحقيق هذا المستوى اللغوي الراقي؛ فقد تعلم الشعراء إجادة هذا المستوى الفني للغة عن طريق الرواية والملازمة للفصحاء من الشعراء، ومعايشة العرب الفصحاء، والسير على سنن العرب في أقوالها ونظمها؛ فكان الشاعر يتلقى هذا المستوى الراقي للغة عن طريق رواية النصوص الشعرية الفصيحة ومعايشة البيئات اللغوية السليمة سماعًا ومشافهة.
ويقول: "وليس النحو بأوفر حظًّا من زميله الصرف من حيث ربطه بالأصوات واعتماده على نتائج البحث فيه، والذي نعلمه أن علماء العربية لم يستفيدوا إطلاقًا من الدراسات الصوتية في مناقشة ما يحتاج إلى ذلك من مسائل النحو ومشكلاته"([6]).
وفي إطار تأكيده على أثر الجانب الصوتي في اللغة العربية ونحوها يقول: "وهناك في النحو العربي الكثير من الأبواب التي تحتاج في تحليل مادتها تحليلاً علميًّا دقيقًا إلى موسيقى الكلام وتنغيمه"([7]).
ويشير الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه (دلالة الألفاظ) إلى اعتماد النحاة على الجانب الصوتي في صياغة المصطلح النحوي كذلك، فيقول: "فالنحاة في كتبهم يحاولون التفرقة بين كل من اللفظ والكلمة والقول، في حديث طويل نخرج منه أنهم يستشعرون مع اللفظ عملية النطق وكيفية صدور الصوت، وما يستتبع هذا من حركات اللسان والشفتين، فإذا ربط هذه الأصوات المنطوق بها وما يمكن أن تدل عليه من معنى تكونت في رأيهم"الكلمة"، أي أن الكلمة أخص لأنها لفظ دلَّ على معنى"([8]).
ويجعل الدكتور إبراهيم أنيس ذلك سببًا في تسميته لكتابه بـ (دلالة الألفاظ)، فيقول: "من أجل هذا آثرنا في عنوان هذا الكتاب أن نستعمل (الألفاظ) دون (الكلمات)؛ لأن أوضح ما نهدف إليه هنا هو أن نتبين الصلة بين ما ننطق به من أصوات وما تدل عليه من دلالات، ونتعرف على أثر هذا المنطوق به فيما يوحيه إلى الأذهان من صور قد تختلف قوة وضعفًا، وتتباين في رفعتها أو خستها، وتتأرجح بين الوضوح والإبهام"([9]).
واسترعى الجانب الصوتي وعلاقته بالدلالة في اللغة نظر المفكرين والفلاسفة، يقول إبراهيم أنيس: " استرعت اللغة نظر المفكرين من اليونان القدماء، فراحوا يتساءلون عن أسرارها، ويعجبون لتلك المجموعات الصوتية التي ينطق بها المرء فتعبر له عما يدور في خلده، وتحقق له غرضًا دنيويًّا نافعًا، بل وتصله ببني جنسه صلة وثيقة تجعل منهم مجتمعًا إنسانيًّا متعاونًا متفاهمًا، وتميزهم من سائر المخلوقات الأخرى.
وكان أوضح ما استرعى انتباههم فتساءلوا عن تلك المشكلة التقليدية في الربط بين اللفظ ومدلوله، وهل تلك الصلة طبيعية كالتي بين الأسباب الكونية وما يتسبب عنها ... وبدا من سحر الألفاظ في أذهان بعضهم، وسيطرتها على تفكيرهم، أن ربط بينها وبين مدلولاتها ربطًا وثيقًا، وجعلها سببًا طبيعيًّا للفهم والإدراك، فلا تؤدى الدلالة إلا به، ولا تخطر الصورة في الذهن إلا حين النطق بلفظ معين، ومن أجل هذا أطلق هؤلاء المفكرون على الصلة بين اللفظ ومدلوله (الصلة الطبيعية) أو (الصلة الذاتية)"([10]).
ومن أمثلة ذلك ما تعلمه زهير بن أبي سلمى على يد خاله بشامة بن الغدير وزوج أمه أوس بن حجر، وهو الأمر نفسه الذي فعله مع ابنه كعب - على ما تحكيه كتب الأدب واللغة وبين دفافها - فقد كان يصحبه ويلقنه هذا المستوى اللغوي، وكذلك نقل عنه الحطيئة؛ وقد تعددت المدارس الفنية في الشعر العربي القديم بناءً على ذلك.
وفي العصر العباسي تأتي نشأة بشار بن برد الفارسي بين بني عقيل وتعلمه الفصاحة واللغة حتى صار أحد شعراء العربية المهمين في العصر العباسي، وكذلك ابن الرومي وأبونواس وغيرهم.
ويأتي تحديد علماء العربية القدامى لبيئات لغوية معينة وأزمنة بعينها للاحتجاج اللغوي أنموذجًا تاريخيًّا آخر يؤكد فكرتنا.
إذن خلق بيئة لغوية نقية وسماع طلاب العربية لنصوص لغوية فصيحة، ومخالطتهم لها هي السبيل الأنسب من وجهة نظرنا لخلق بيئة تعليمية صحيحة تناسب طبيعة اللغة العربية ذات السمات الصوتية والدلالية الخاصة.
ولقد استخدمت النصوص الشعرية النقية والمختارة بعناية من قبل العلماء والأدباء وسيلة للتثقيف والتعليم والتأديب، وصناعة المختارات الشعرية والمجاميع في العصر العباسي شاهدًا على هذا؛ فقد جمع المفضل الضبي (المفضليات) من عيون الشعر العربي لتأديب ابني أبي جعفر المنصور، وتوالت مجموعات شعرية اختارها أصحابه بعناية كالأصمعيات وديوان الحماسة الذي أتقن أبوتمام في اختياره وتقسيمه وتبويبه حتى قيل: "إن أبا تمام في اختياراته الشعرية في ديوان الحماسة أشعر منه في شعره"، و كذلك فعل تلميذه البحتري في حماسته، وأبو زيد القرشي وغيرهم، وهذا الحرص الشديد على جمع هذه المجاميع الشعرية وتصنيفها من عيون الشعر العربي وحرص العلماء على شرحها وتحليلها كما فعل ابن الأنباري والمرزوقي والتبريزي وأبوجعفر النحاس والزوزني وغيرهم يصب صبًّا في الغرض نفسه الذي نحن بصدد الحديث عنه، وهو مدِّ شباب المثقفين ورفدهم بروافد لغوية راقية تسمو بالذوق اللغوي والحسِّ الفني لديهم.
ولقد تشكلت مدارس علمية لغوية تحول غير العرب عن طريقها إلى علماء أصَّلوا وألَّفوا في العربية بل صاروا أفضل ممن ألف فيها كما هو الحال لسيبويه وسماعه لأستاذه الجليل الخليل بن أحمد الفراهيدي ويونس بن حبيب، كما أن هؤلاء العلماء لم يكتفوا بذلك بل اتجهوا إلى البادية يلقون الأعراب الفصحاء وينقلون عنهم، ويستشهدون بكلامهم، ويوثقون بأقوالهم آراءهم اللغوية والنحوية.
إن الرواية عن الأعراب الفصحاء ومخالطتهم ومجالستهم ومعايشتهم شكلت عنصرًا مهمًا لدى علماء العربية في صياغة أصولها وقواعدها، كما أثر ذلك كله في تشكيل وصياغة ملكاتهم اللغوية؛ فسيبويه غير العربي يؤلف أفضل كتاب في العربية وقواعدها وهو(الكتاب)، ولقته في تأليفه سمي (قرآن النحو)، وحاول العلماء أن يتسقطوا له أخطاء فأعجزهم لدقة تأليفه رغم يفاعة سنه، إلا هنات قليلة تحتمل التأويل([11]).
ولقد قالوا قديمًا إن كثرة المدارسة لتعدي على العلم، وكثرة الرواية عن الأعراب الفصحاء ومخالطتهم أكسبت علماء العربية الدراية بخبايا وأسرار العربية.
لقد أسهم التلقي والسماع في تشكيل المدارس النحوية التي قامت آراء أصحابها النحوية واللغوية على ماسمعوه من كلام الأعراب الفصحاء الذين خالطوهم وعايشوهم، وقياسهم عليه واشتقاقهم منه، إن اللغة العربية عاشت ومرت بمراحل مختلفة؛ ففي مرحلة نضج السليقة اللغوية وسلامتها عاشت اللغة فترة طويلة من الشفاهية لعبت فيها المشافهة والسماع دورًا مهمًا في التأصيل والتأسيس والترسيخ لقواعد اللغة ونمو سجايا الأفراد وذوائقهم اللغوية؛ فقد تحولت العربية من الصورة الشفاهية (الحيوية) إلى المرحلة الكتابية (السكونية)، ومن الممارسة الواقعية والفعلية إلى التأصيل والتقعيد.
وعندما بدأت لحظة الضعف تتسرب للغة نتيجة اختراق البيئة اللغوية الفصيحة النقية (بيئة الجاهليين والإسلاميين)، وضعفت السليقة اللغوية بناء على ذلك نتيجة مخالطة غير العرب فبدأت مرحلة الكتابية والتدوين والتقعيد اللغويين لتثبيت القواعد ووضع الأصول والقواعد اعتمادًا على المرحلة اللغوية القوية من مراحل النضج اللغوي مرحلة المشافهة والسماع التي تمثل البيئة اللغوية النقية والسليمة، وبقيت آثارها ولا زالت هي أصل التقعيد والتعليم للغة العربية حتى وقتنا الحاضر؛ فالسماع في العربية أصل التقعيد وأصل القياس وأصل الاحتجاج، فقد استند أصحاب المدارس النحوية كما أشرنا في آرائهم ومناقشة قضايا اللغة وترجيح رأي أو وجهة نظر على أخرى على السماع عن العرب وجمع أشعارهم وأقوالهم وحكمهم وأمثالهم واستندوا عليها في الاحتجاج اللغوي ووضع قواعدها وتأصيلها، هكذا فعل علماء اللغة فسيبويه اعتمد في صياغة قواعد الكتاب عما تلقاه من أساتذته الخليل بن أحمد الفراهيدي ويونس بن حبيب؛ فقد أسس كثيرًا من آرائه في الكتاب على ما سمعه بنفسه عن العرب الخلص، فكثيرًا ما نجد عبارات في كتابه تدل على ذلك، مثل(سمعته عن الأعراب)، و(العرب تقول)، وهكذا سمعته عن العرب الفصحاء، وكذلك امتلأ كتاب (الخصائص) لابن جني بمثل هذه العبارات.
إن اللغة العربية حياتها وحيويتها تكمن حقيقة في السماع والمشافهة؛ ذلك لطبيعة أصواتها والارتباط الشديد بين المستوى الصوتي والمستوى الدلالي فيها.
إن حياة اللغة العربية في المشافهة والسماع، وحياة الدلالة فيها تقوم في جانب كبير منها على الجانب الصوتي المسموع، ولما تطرق الضعف إليها والوهن لجأ العلماء إلى التدوين والتقعيد والكتابة، ووضع اللغة وتحولها من الصورة المسموعة إلى الصورة المكتوبة وإن حفظ قواعدها وأصولها فقد أدى إلى ضعف السليقة اللغوية، وأصبحنا الآن في مشهد لغوي غائم وضعيف؛ فالممارسة اللغوية الشفاهية ضعيفة وواهنة، وضعف تحصيل اللغة بقواعدها المكتوبة بسبب الهوة والفجوة الواسعة بين صورتي اللغة (الصورة الشفاهية)، وهي الصورة المثلى والحقيقية للغة العربية، و(الصورة الكتابية) وهي الصورة التقعيدية لها.
ويأتي حديث النبي صلى الله عليه وسلم :"نضَّر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها ...، ورب حامل فقه إلى من لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه..."، دليلاً على أهمية السماع في عملية التلقي والفهم والإدراك بصفة عامة والتلقي للغة بصفة خاصة، ولعل كلمتي (سمع) و (فوعاها) تختزل أهمية السماع في عملية الإدراك والوعي الدقيقين للكلام المقول؛ فالسماع الجيد طريق للوعي والتعلم الجيد، ثم تأتي مرحلة (الأداء) الجيد عن طريق (المشافهة) والنقل اللفظي للعلم، مرحلة صحيحة لنقل العلم وإيصاله بصورته السليمة التي تؤكدها كلمة (فوعاها)؛ فهذا الحديث يؤسس بشكل غير مباشر لعملية التعلم السليم ومراحلها الأساسية: السماع الجيد + الوعي الجيد بالمسموع وفهمه + نقل المفهوم وإيصاله.
قلنا إن الصورة الشفاهية المسموعة والممارسة الواقعية لها هي الصورة المثلى للغة، والتحصيل المثالي لها يكون عن طريق التلقي المسموع لتلك الصورة المثالية؛ فالسماع هو وسيلة التلقي المثالي للعربية.
وتؤكد الأدلة التراثية على تلك الحقيقة، وهي أن السماع هو الصورة المثلى لتلقي العربية، وأن المشافهة أو الممارسة الشفوية هي الصورة المثلى لبناء سليقة لغوية عربية سليمة، ولن يكون هناك تلقي صحيح وتعلم صحيح للعربية إلا بالعودة إلى الصورة المثالية للعربية عن طريق خلق تلك البيئة أو بنائها من خلال العودة إلى نصوص تلك المرحلة السابقة وتنقية البيئة اللغوية الحالية من الشوائب اللغوية التي قد تخلخل السليقة اللغوية العربية.
إن إخراج العربية من مرحلة الكمون والتقعيد الكتابي (الحالة الكتابية) إلى مرحلة الإحياء والبعث لصورتها المثلى (الحالة الشفاهية والمسموعة) يسهم بشكل فعال في بناء سليقة لغوية عربية سليمة.
وفي القرآن الكريم يرد ذكر السماع دليلاً على الإدراك والفهم والتواصل الحقيقي (ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم) ([13])، وفي ذلك ما يدل على أن السماع هو أول طريق للتلقي السليم والإدراك الواعي.
وقد لفت القرآن الكريم إلى أهمية السمع للإنسان فقال: "ولا يسمع الصمُّ الدعاءَ إذا ما ُينْذَرون" (الأنبياء: 45)، "إنما يستجيب الذين يسمعون"(الأنعام: 36)، "ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون"(الأعراف: 10)، "إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يسمعون"(الروم: 23 ويونس67)، "إنَّ في ذلك لآيةٍ لقومٍ يسمعون"(النحل: 65)، "إن في ذلك لآياتٍ أفلا يسمعون"( السجدة: 26)...وهلمّ جراًّ
ولحكمةٍ ربانيةٍ بالغةٍ كان تقديم السمع على غيره في كثير من الآيات القرآنية الكريمة، قال عز من قائل:"وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون"(النحل:78)،"إن السمع والبصرَ والفؤادً كل أولئك كان عنه مسؤولا"( الإسراء: 36)،"وهو الذي انشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة"(المؤمنون: 78)،"وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير"(الملك: 10)، "قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة"(الملك: 23)، وغير ذلك.
وكذلك كان تقديم(السميع) على (العليم) في جميع الآيات القرآنية، وتقديمه على البصير إلا في قوله تعالى: "مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع"(هود: 24).
وإنها لَحكمةٌ ربانيةٌ عُبِّر عنها لغة، فكان تقديم لفظ" صم"على "بكم" لفتاً إلى طبيعة إنسانية أشرنا إليها من قبل، قال تعالى: "صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون"(البقرة: 18)،"صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون"(البقرة:171)، "والذين كَذَّبوا بآياتنا صمٌّ وبكمٌ في الظلمات"(الأنعام:39)، "إن شرَّ الدوابِّ عند الله الصُّمُّ البكمُ الذين لا يعقلون"(الأنفال: 22).
اتفق العلماء على أن لهجة قريش صارت أفصح اللهجات العربية لشيوعها بين القبائل لمكانة قريش بين العرب قديمًا، ولما حرص عليه أهلها من تنقية لها، وقد دأب أهلها على تربية أبنائهم تربية لغوية سليمة عن طريق المعايشة الحقيقية للغة عن طريق الإرساليات القديمة التي كانوا يقومون بها لبني سعد؛ فقد دأب العرب على إرسال أبنائهم إلى بادية بني سعد ليربوا هناك في طفولتهم ليكتسبوا الفصاحة، وليعيدوا تشكيل سليقتهم اللغوية عن طريق تلك الإرساليات، يقول أبو الحسن أحمد بن فارس: "أجمع علماؤنا بكلام العرب، والرواة لأشعارهم، والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومجالسهم أن قريشًا أفصح العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، وذلك أن الله جلَّ ثناؤه اختارهم من جميع العرب واصطفاهم، واختار منهم نبي الرحمة محمدًا صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشًا قُطَّان حرمه، وجيران بيته الحرام وولاته، فكانت وفود العرب من حجاجها، وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم، وكانت قريش تعلمهم مناسكهم، وتحكم بينهم ... ثم قال: وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم، وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائزهم وسلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب"([14]).
ويقول أبو نصر الفارابي: "كانت قريش أجود العرب انتقاءً للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عند النطق"([16]
ولقد دلَّت الأحاديث النبوية والشواهد التاريخية واللغوية وآراء العلماء القدامى على أهمية تلك البيئة اللغوية الفصيحة في عملية التعليم والتأسيس لمستوى لغوي عالي الفصاحة؛ فهناك حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن فصاحته وتفاخره بمستوى فصاحته العالي وتفاخره بفصاحته على الفصحاء، فهو من قريش التي عرفت بفصاحتها بين العرب وزاد على ذلك بتربيته منذ الصغر في بني سعد الأفصح فامتلك ناصية الفصاحة، ولم يزاحمه فيها أحد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أفصح العرب بيد أني من قريش ونشأت في بني سعد"([17])، وفي هذا دليل على أهمية المعايشة والمخالطة للفصحاء، فنحن في هذا الخبر أمام مستويين مستوى فصيح (عرب قريش) ومستوى أفصح (بما امتلكه وألَّم به من فصاحة بني سعد) منبع الفصاحة العربية ومدرستها آنذاك.
يقول الدكتور صادق عبدالله أبوسليمان:" واستمرت هذه العادة إلى ما بعد العصر الجاهلي فرأينا خلفاء بني أمية والعباس يرسلون أبنائهم إلى البادية، وكذلك وجدنا كبار الشعراء أمثال بشار بن برد ينشؤون نشأتهم الأولى فيها، وكأن الفصاحة في نظرهم عنصر من عناصر اللبن الذي ترضعه هؤلاء الأمهات البدويات لأطفالها، أوَ ليست الفصاحة في بعض معانيها اللغوية "رَِّغوة اللبن"، جاء في ابن منظور: "وأَفصحَ اللبن: ذهب اللِّبَأ عنه...، وفَصُحَ اللبن: إذا أُخذت عنه الرَُِّغوة؛ قال نَضْـلَةُ السُّلَمِي:
رَأَوْهُ فَازْدَرَوْهُ، وَهْوَ خِرْقٌ وينفـعُ أهلَهُ الرجلُ القبيحُ
فلم يَخْشَوا مَصَالَتَهُ عَلَيْهِمْ وَتَحْتَ الرّغوةِ اللبنُ الفصيحُ
وأفصحت الشاة والناقة: خلص لبنُهما، وقال اللحياني: أفصحت الشاة: إذا انقطع لِبَؤُها وجاء اللبن بعد"([4]).
وكذلك وجدناهم يتخذون السماعة وسيلة لتعليم أبنائهم بل من يتوسمون فيه موهبة معينة كالشعر أو الخطابة؛ فقد رُوي عن الخليل بن أحمد الفراهيدي "أنه كان بالصحراء فرأى رجلاً قد أجلس ابنه بين يديه وأخذ يردد على سمعه(نعم لا، نعم لا لا،نعم لا، نعم لا لا) مرتين، فسأله عن هذا، فقال: إنه التنغيم، بالعين المعجمة نعلمه لصبياننا"([5])أو التنعيم كما في رواية أخرى([6])"([18]).
ويؤكد ابن فارس على أهمية السماع في تحصيل اللغة وإتقانها وتنميتها، فقال ابن فارس: "تؤخذ اللغة اعتيادًا كالصبي العربي يسمع أبويه وغيرهما، فهو يأخذ اللغة عنهم على مرِّ الأوقات، وتؤخذ سماعًا من الرواة الثقات ذوي الصدق والأمانة، ويُتقى المظنون"([19]).
وهو ما يكتسبه الفرد طفلاً منذ أيامه الأولى من أبويه وأفراد عائلته والمحيطين به من جيرانه وأبناء مجتمعه، فالتواصل أو إن شئت فقل: التفاعل الاجتماعي بين الفرد والمحيطين به هو المصدر الأول لاكتساب اللغة، وقد لفت ابن خلدون إلى أثر هذا المصدر وتكراره، وهو ما عبر عنه ابن فارس بكلمة" اعتياداً" - في تكوين ملكة الإنسان اللغوية التي تُمكِّنه من اللغة، ينطقها دون تكلف أو عناء، يقول: ”والملكات لا تُحَصَّل إلا بتكرار الأفعال.... فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته اللغة العربية موجودة فيهم يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقنها أوَّلاً ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة،ومن كل متكلم، واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكةَ وصِفَةً راسخة،ويكون كأحدهم، هكذا تَصَيَّرَتْ الألسن واللغات من جيل إلى جيل، وتعلمها العجم والأطفال” ([8]).
ولفت ابن جني إلى أهمية السماع في تنمية ملكة الفرد اللغوية التي يكتسبها من أفراد مجتمعه، وذلك حين تحدث عن اتصال العرب ببعضهم وأثره في انتقال لغاتهم إلى بعضهم فقال: “إنهم بتجاورهم وتلاقيهم وتزاورهم يَجْرون مجرى الجماعة في دار واحدة، فبعضهم يلاحظ صاحبه ويراعي أمر لغته، كما يراعي ذلك من مهم أمره”([9]) وهكذا تتنامى حصيلة الفرد اللغوية ما دام متصلاً بغيره من الناس.
إننا إذا كنا قد تحدثنا عن المستوى المعياري تعلمًا واكتسابًا وتأليفًا فإننا نتحدث هنا عن مستوى أرقى وأعلى من المستوى المعياري فصاحبه لابد أن يمتلك المستوى المعياري وزيادة؛ لأنه يحتاج من صاحبه إلى امتلاك ناصية اللغة، والقدرة العالية على امتلاك ناصية اللغة، كما أنها تحتاج إلى ذائقة لغوية سليمة وراقية، فالإلمام باللغة وتعلمها واكتسابها شيء والإبداع الفني فيها شيء آخر أرقى من مجرد تعلم اللغة وإن كان في الأصل يتكيء عليه ويعتمد ومنه ينطلق.
ومن الأمثلة الواضحة على ذلك في تاريخ العربية والإبداع اللغوي العربي، المدارس الشعرية في العصر الجاهلي التي اعتمدت على رواية الشعر ومصاحبة الشعراء وملازمتهم والرواية عنهم مما أكسب ناشئة الشعراء ناصية اللغة وارتقى بذوائقهم اللغوية ومن ثم دفعهم إلى الرقي اللغوي والإبداع، و مدرسة زهير بن أبي سلمى إحدى تلك المدارس الفنية التي قامت على المتابعة والرواية والمشافهة؛ حيث انطلقت من بشامة بن الغدير خاله ومن أوس بن حجر زوج أمه ومرورًا بزهير وكعب بن زهير والحطيئة وانتهاء بكثير عزة في العصر الأموي.
وفي العصر العباسي تأتي نماذج كثيرة من الشعراء العباسيين الذين يمثلون أعلامًا على الحركة الأدبية للشعر العربي في العصر العباسي وهم في الأساس من أصول غير عربية كبشار بن برد وأبي نواس وابن الرومي وغيرهم.
ففيما يخص بشار الذي ترك علامة واضحة على خريطة الشعر العربي وأعطى أنموذجًا يحتزي فيما نحن بصدد الحديث عنه؛ فقد ولد بشار بن برد بن يرجوخ من أبٍ فارسي وأمٍ رومية، وقد ولد أعمى فما نظر إلى الدنيا قط، وهو نفسه يقول في ذلك:
عميتُ جنينًا والذكاء من العمى فجئتُ عجيبَ الظَّنِّ للعلم موئلا ([20])
إن حاسة السمع بتوابعها من سماع ومشافهة كانت سبيل الشاعر للإلمام بالمستوى اللغوي المعياري وسبيله كذلك للإبداع اللغوي الفني، وفي ذلك تأتي مقولة الأصمعي: "وُلِدَ بشار أعمى فما نظر إلى الدنيا قط، وكان يشبِّه الأشياء بعضها ببعض في شعره فيأتي بما لا يقدر البُصراء أن يأتوا بمثله"([21] ).
وفي إطار هذا يلفت انتباهنا الدكتور شوقي ضيف إلى السر في امتلاك هذه القدرة الفذة على الإبداع عند بشار بصفة خاصة وعند شعراء تلك المرحلة بصفة خاصة، فيقول: "ومع ذلك اضطر اضطرارًا حين عاش شعرهم (يعني الشعر العربي) أن يتمثل أحاسيسهم ومشاعرهم وأفكارهم وخواطرهم مخترقًا في تمثله حجب الزمان والمكان مطأطئًا من غروره، وليس معنى ذلك أنه انفصل عن عصره، فقد مضى يزاوج بين الماضي والحاضر، يتلقى الماضي ويحياه، وأيضًا يتلقى الحاضر ويحياه، وبذلك وصل بين الحاضر والماضي برقيه العقلي وحياته الحضارية وصلاً خصبًا"([23] ).
ويشير الدكتور شوقي ضيف إلى مرحلة التأسيس اللغوي الأولي عند بشار وكيف امالك ناصية اللغة العربية بينما كان أعجميًّا أمًّا وأبًا، فيقول: "وحدَّدَتْ آفة بشار حياته منذ نعومة أظفاره، فاتجه إلى المساجد وإلى مِرْبد البصرة ينهل من حلقات العلم والشعر، وأعانته نشأته في بني عُقَيْل على أن يتمثل السليقة العربية، ولم يكد يبلغ العاشرة حتى أخذ ينبوع الشعر يسيل على لسانه"([24]).
وفي موضع آخر يقول: "واشتد ببشار طموحه إلى إتقان العربية، فيمَّم نحو البادية، فأقام فيها فترة مكَّنت له في عربية لسانه وفقهه الدقيق باللغة وشئون البادية"([25]).
ويؤكد بشار في شعره كثيرًا وينوِّه على دور حاسة السمع في تمكنه الشعري والفني محاولاً أن يعتذر عن فقده لمتعة الجمال بالبصر، ومن ثمَّ مضى يردد في أشعاره أن السمع يحلُّ محل العين في تقدير الجمال والإحساس التام به، من مثل قوله:
يا قومُ أُذْني لبعض الحَيِّ عاشـــــــــــــــــــقةٌ والأُذْنُ تعشــــــــــــــــقُ قبل العين أحيانا
قالوا بمن لا ترى تَهْذِي؟ فقلت لهم الأُذْنُ كالعين تُوفِي القلب ما كانا ([26])
ويعلل الدكتور شوقي ضيف إتقان بشار للعربية بمعايشته ومخالطته للعرب الفصحاء، فيقول: "ويكفي أن نرجع إلى بشار الفارسي الأصل زعيم المحدثين، فسنراه يعلل لإتقانه العربية بنشأته في بني عُقَيْل وتبدِّيه أعوامًا طويلة، يقول: "وُلدت ههنا (في البصرة) ونشأت في حجور ثمانين شيخًا من فصحاء بني عُقَيل، ما فيهم أحد يعرف كلمة من الخطأ، وإن دخلت على نسائهم فنساؤهم أفصح منهم، وأيْفَعْتُ فأبديتُ (دخلت البادية) إلى أن أدركت (بلغت الحُلُم) فمن أين يأتيني الخطأ"، ولم تكن المسألة مسألة خلو كلامه من الخطأ، إنما كانت –في حقيقتها اكتساب السليقة العربية، حتى غدا كأنه عربي أصيل، مما جعل اللغويين يشيدون به طويلاً"([27]).
وتكفينا شهادة ابن المعتز في حق بشار بن برد حيث قال عن شعره: "كان شعره أنقى من الراحة، وأصفى من الزجاجة، وأسلس على اللسان من الماء العذب"([28]).
ومن النماذج الواضحة الأخرى على تعمق العربية في نفس غير العرب ونمو مستوى اللغة العربية ورقيها، فبدأ حياته بالتربي على أصول العربية ونصوصها الأصيلة؛ فقد دخل الكُتَّاب وحفظ القرآن وأطرافًا من الشعر، وتفتَّحت موهبته، فأخذ يلهج ببعض الأشعار، ويقول الدكتور شوقي ضيف عن نشأة أبي نواس: "وشَبَّ الغلام فأخذ يختلف إلى حلقات المسجد الجامع يتزود من الدراسات اللغوية والدينية ومن الشعر القديم ومعانيه غير أن أمه رأت أن تلحقه بأحد العطارين، فكان يذهب في العشيِّ إلى المسجد يستمع من أبي عبيدة أخبار العرب وأيامهم، ويلتقط من أبي زيد غرائب اللغة ومن خلف الأحمر نوادر الشعر"([29]).
فعلى الرغم من فارسية أبي نواس فإن سليقته اللغوية العربية لم تنتقص بل إنها قويت، يقول شوقي ضيف: "ومن أجل ذلك كان ينبغي أن لا يندفع باحث إلى القول بأن السليقة العربية انتُقصتْ في نفوس العباسيين، فقد كانت أقوى قوة من أن تنتقص، حتى لَدَى مَنْ كانوا يحسنون الفارسية مثل أبي نواس، وقد كانت اللغة العربية تتعمق جوهر نفسه بفضل من زوَّدوه بها من اللغويين أمثال خلف الأحمر أستاذه، ومضى ينهلها من ينابيعها الصافية في البادية، فأقام بها حولاً كاملاً، يعبُّ منها ويرتوي، وأكبَّ على دواوين الجاهليين والإسلاميين من أصحاب القصيد والرجز يستظهرها، حتى قالوا: إنه كان يحفظ دواوين ستين امرأة فضلاً عن الرجال، وإنه حفظ سبعمائة أرجوزة غير ما كان يحفظه من قصائد الجاهليين والمخضرمين والأمويين"([32]).
يقول الدكتور صادق عبدالله أبو سليمان: "ويشكل جانب الاستعداد الفطري في عملية إنتاج الكلام، وهو من منجزات الجهاز النطقي الذي أودعه الله في الإنسان، وجعله مطواعًا قادرًا على نطق أيٍّ من اللغات التي يعتاد على سماعها، وهو يشكل الجانب المكتسب في عملية الكلام؛ فجهاز الطفل النطقي أسير ما اعتاد جهازه السمعي سماعه، يحاكيه ليصبح لسان حاله الذي يتعامل به الآخرون؛ فالكلام لا يتم أخذه إلا بالسماع من الآخرين، وإن اعتياده على سماع لغة ما هو معيار نجاحه في أدائها أداءً سليمًا"([33]).
ويقول أيضًا: "إننا نلمس هذا في حياتنا إننا نلمس هذا الحال في حياتنا، فجميعنا أُمِّيٌّ ومتعلمٌ وعالمٌ يتكلم اللغة العامية دون تعلم، ولا يكاد يخطئ في استعمالها صوتاً وصرفاً ونحواً ودلالةً، ومتعلمنا وعالمنا تعلم اللغة العربية الفصحى في مراحل دراساته المختلفة؛ ولكنه عند تكلمه بها يخطئ لعدم استعماله لها استعمال حياة، وكذلك نتعلم اللغات الأجنبية، وأيّاً كان تفوقنا في امتحاناتها فإن تعلمنا لها سيبقى دون جدوى، وسنبقى نتلعثم في نطقها، وغير قادرين على استيعاب كلام أهلها ما لم نختلط بهم فنعايش لغتهم سماعاً، وهو أمرٌ عايشنا تطبيقه: فعاملنا الفلسطيني البسيط في تحصيله العلمي قد تراه يجيد اللغة العبرية كما يجيدها أهلوها؛ لأنه عايشها سماع حياة من أفواههم.
وفي ضوء هذا أستطيع القول بأن اللغة ملك السماع التي تعتاد الأذن على سماعها هي التي ستصير لغة سامعها، أياًّ كان أصله العِرقي، فلا علاقة بين العرق واللغة، فلا يورثها الآباء للأبناء إلا بقدر سماعهم لها منهم، ولو كانت اللغة وراثة لبقينا على لغة أسلافنا الأولى لا تغيير فيها، ولَمَا تكلم العربي الذي يُولَد في غير وطنه العربي لغة البلد الذي رُبِّيَ فيه وليداً، ولمَا وجدنا أباً لا يجيد إلا لغة واحدة، وابنه يجيد لغتين أو أكثر.
إن اللغة - فيما نؤكد - رهينة السماع، وقدرة الله - سبحانه وتعالى - منحت الإنسان جهازاً نطقيّاً قادراً على التكيف ليتكلم صاحبه بأية لغة تسمعها أذنه، وإن ارتباط السماع بالكلام نتبينه فيمن ابتُلوا بالصمم، أو نقص في السمع فكانوا بُكْماً أو مرضى كلام لا يعون إلا القليل، فلو كان الأمر أمر وراثة لوجدناهم يتكلمون لغة آبائهم، ولمَا وجدنا الكفيف الذي لم يُعَطَّل جهازه السمعي يتكلم ويتعلم ويبدع في أمور كثيرة.
إن السمع وسيلة الإنسان إلى امتلاك اللغة، وبلسان ابن خلدون"السمع أبو الملكات اللسانية"، ووسيلته إلى الفهم والتعلم، ومازال الإنسان يسمع فهو يتعلم، وإن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الحي في الاستفادة من أذنيه، فقد حفظ القرآن سماعاً من جبريل عليه السلام، وأسمعه للناس، وهو الإنسان الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب"([34]).
ويصور الدكتور شوقي ضيف مشهد اهتمام الشعراء بتعلم العربية عن طريق الحراك الشعري والمساجلات فيقول: "كل من يتابع جهود اللغويين في القرنين الثاني والثالث للهجرة يلاحظ توًّا كثرة ما أدوه للعربية وشعرائها من دراسات متنوعة، فقد جمعوا مادتها الشعرية واللغوية جمعًا مستقصيًا في مباحث مفردة كمبحث عن الإبل أو الشجر أو الكلأ أو النخل والكَرْم أو خَلْق الإنسان أو الميسر والقداح أو الأنواء، وكمبحث عن الاشتقاق أو عن علامات التأنيث أو الهمز وتحقيقه أو عن فعلت وأفعلت أو عن الأضداد، أو عن الوحش والسباع والطير والهوام وحشرات الأرض، وكادوا لا يتركون موضوعًا ولا صيغة لغوية فيها بعض الاشتباه إلا دوَّنوا فيها الرسائل القصيرة والطويلة، ثم ألفوا الكتب المجلدة، واستطاعوا منذ أواسط القرن الثاني للهجرة أن يضعوا قواعد النحو العربي وضعًا نهائيًّا وبالمثل قواعد الصرف والتصريف، وأيضًا قواعد الأوزان الشعرية والقوافي، بحيث أصبح الشعر العربي ولغته جميعًا مذلَّلين منقادين للناشئة"([35]).
وفي موضع آخر يشير الدكتور شوقي ضيف إلى أثر توافر النصوص الشعرية الأصيلة في تنمية ذائقة الناشئة اللغوية وبناء ذائقة ناشئة الشعراء الإبداعية، فيقول: "وعلى هذا النمط أخذ اللغويون يجمعون للناشئة من الشعراء وغير الشعراء مادة اللغة، كما أخذوا يبسطون لهم قواعدها النحوية والصرفية والموسيقية، وقد مضوا منذ مطالع العصر العباسي يجمعون لهم عيون الشعر العربي في مجاميع كثيرة، غير ما جمعوه من الدواوين القديمة الجاهلية والإسلامية، وما أخذوا يجمعونه من دواوين العصر العباسي للشعراء النابهين، وكانوا يشرحون ما يجمعونه من أشعار تلك الدواوين حتى تفقهه الناشئة فقهًا حسنًا، وشاركهم الشعراء في هذا الصنيع على نحو ما مرَّ بنا ... مما صورناه عند أبي تمام والبحتري، وقد يكون مما دفعهما إلى هذه المشاركة أنهما وجدا اللغويين يهتمون في كثير من الأمر بالشعر الغريب؛ ليتخذوا منه مادة للتعليم على نحو ما يلقانا في كتابات ابن السكيت وثعلب، فأرادوا أن يقفا الناشئة بجانب ذلك على طرائف الشعر القديم والحديث، وكان كثير من اللغويين قد عُني بالترجمة للشعراء القدماء الجاهليين والإسلاميين، فانبرى بعض الشعراء والأدباء يترجم للشعراء العباسيين في كتب يفردها لهم، كما يلقانا في كتاب طبقات الشعراء المحدثين لابن المعتز وكتاب الورقة لمحمد بن داود بن الجراح، وجمع ابن قتيبة بين القدماء والمحدثين في كتابه (الشعر والشعراء)، وكانت قد سبقت ذلك كله كتب في تراجمهم للأصمعي وأبي عبيدة ودعبل، وكتاب طبقات الشعراء لابن سلام مشهور"([36]).
وكأن الشعراء والأدباء والنقاد أرادوا أن يضعوا بين يدي الناشئة من الشعراء والأدباء نماذج ثرة يقتدون بها وينظمون أشعارهم مقتفين آثار أصحابها ذوي الاتجاهات الفنية والمستويات اللغوية المتنوعة؛ لصقل ذائقاتهم اللغوية وإيقاظ هممهم الإبداعية، ويؤكد الدكتور شوقي ضيف ذلك فيقول: "وكل ذلك مكَّن الناشئة من إتقان العربية والوقوف على كثير من أسرارها التركيبية والموسيقية، وزاد من وقوفهم على هذه الأسرار أن بيئة المتكلمين أخذت تعنى منذ القرن الثاني الهجري بتلقين الناشئة بعض قواعد البيان والبلاغة، حتى يحسنوا الجدل والحوار، وحتى يخلبوا ألباب سامعيهم"([37]).
إن إتاحة بيئة لغوية نقية مثالية لطلاب العربية يهيئ لوجود مخرجات مؤسسة تأسيسًا سليمًا، وأول مكونات هذه البيئة وأسسها هو النصوص اللغوية الأصيلة للغة العربية، التي تسهم في تشكيل عقلية متعلم العربية وثروته اللفظية والأسلوبية، ويقف النص القرآني بفصاحته ومثاليته اللغوية والأسلوبية على رأس هذه النصوص اللغوية الأصيلة؛ ذلك النص الذي نزل بأصوات العربية نفسها وألفاظها ومكونات جملها، إلا أنه تفوق على فصاحة أصحابها وبلاغة - رغم ما عرف به العرب من فصاحة وبلاغة وبيان - ولم يكتف بذلك بل بلغ التحدي به ان طالب أهل اللغة أن يجاروه في مستواه من الفصاحة العربية والبيان.
ويطرح الدكتور عبد الصبور شاهين في كتابه (عربية القرآن) تساؤلاً يبين لنا وضعية القرآن وأهميته بالنسبة للغة العربية ودارسيها، فيقول: "هل القرآن الكريم هو الذي يحفظ اللغة العربية؟ أم أن اللغة العربية هي التي تحفظ القرآن؟ فإذا شئنا إجابة علمية عن هذا السؤال فلن تكون الإجابة - مع لزومها - أصدق تعبيرًا من قول الله في القرآن: (إن نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(الحجر: 9)، ومعنى هذا أن حفظ القرآن ليس مهمة بشر، ولا هو يتحقق بوسيلة من وسائل البشر، بل هي مهمة الله وحده (وإنا له لحافظون).
لقد قلنا: إن إرادة الله في سننه شاءت أن تجعل العربية لغة الوحي المنزل، فهل أفادت العربية من هذا التنزيل، أو من هذا الاستخدام الإلهي في التعبير عن رسالة الوحي؟، إن هذا السؤال يبدو ساذجًا، ولكنه مفتاح إلى حقائق كثيرة من الضروري الإلمام بها"([40]).
بل نراه يشير إلى الدور المهم الذي أسهم القرآن به في تنقية العربية من شوائب اللهجات وحفظه للغة العربية وبنائه لكيانها، فيقول: "وكان من الممكن لو لم ينزل القرآن أن يتغير بيان العربية بمرور الزمن، وتتابع الأجيال، ثم تبدأ اللهجات العربية - التي كانت متعددة بتعدد القبائل - تستقل، لتصبح من جيل إلى جيل لغات مستقلة، لا علاقة بينها، إلا ما كان من علاقة بين لغات الفصيلة الواحدة، كما حدث للهجات الساميين التي أصبحت لغات مستقلة، أي: إن نزول القرآن قد كفل مجموعة من النتائج في وجود اللغة العربية:
أولها: أن العرب جميعًا تشبثوا باللغة الفصحى؛ لأنها لغة الوحي والعقيدة.
وثانيها: أن اللهجات العامية اقتصرت على حيز ضيق جدًا من ممارسة الحديث الخاص بين الأفراد، مع اتساع مجالات استخدام الفص