تأثير الحضارات في حفظ اللغات

يسلط المقال الضوء على حاضر اللغة العربية، وأسباب الغزو اللغوي، ثم يستعرض المدارس اللغوية، والتطور العلمي واللغة، ويختم بمعلوماتٍ عن قيمة اللغة.

المؤلف: حسن مصطفى المصدر: مشروعنا التاريخ : 14/01/2020 المشاهدات : 506

المحتوى

حاضر اللغة العربية

نحن نواجه أزمة.. هذه الأزمة بدأت منذ عصور سحيقة ومازلنا نعايشها.. هذه الأزمة هي أزمة اللغة العربية، فاللغة لم تعد بنفس القوة التي كانت عليها. 

فاللغة التي كانت تستخدم في تسمية الاختراعات والأجهزة (مثل الاسطرلاب والأنبيق) والتي نزل بها الوحي القرآني العظيم ودونت بها التراجم وآثار الحضارات السالفة صارت تراثا وذكريات لا نتعايش معه إلا في أضيق الحدود. 

ونحن لن نحاول في هذا الطرح تناول الأزمة بالصورة التاريخية التقليدية وذلك لكثرة الجدل في هذا الباب أولا وثانيا لكثرة الأبحاث التي تناولت الموضوع من هذه الجهة.

سنحاول في هذا الطرح أن نتناول الموضوع من جهة دور اللغة في المنطق والفكر وتطور العلم والتقنيات الحديثة، ومن ثم نحاول الوصول لأسباب الظاهرة أو الأزمة المتعلقة باللغة العربية، ثم نقيم الأثر النفسي والاجتماعي لهذه الأزمة على المجتمع العربي.

قيمة اللفظ

اللغة أو الألفاظ هي الطريقة التي ابتكرها الإنسان وأتقنها للتعبير عن أفكاره بصورة عامة مهما وأيا كانت تلك الأفكار؛ ولذلك كانت قيمة اللفظ ليست في ذات اللفظ بل في المعنى الذي يحمله اللفظ ويعبر عنه. 

فهو كنظام وضعي (تواضعت الناس عليه) يعتمد في استمراريته على مدى ارتباطه بواقع حياة الإنسان، وإننا عند تحليل ارتباط اللغة العربية في حياتنا نجده وثيقا قويا في الأمور الدينية وبعض الأمور الإدارية في بعض الدول العربية (لا تزال اللغة الرسمية للوزارات والمصالح الحكومية هي اللغة العربية في مصر مثلا) ولا نجد له أثرا ملحوظا في باقي أمور الحياة؛ فتحولت اللغة من وسيلة للتعبير عن الأفكار لأدوات وصل وفصل بين الألفاظ الغربية والأجنبية الدخيلة أو ما يسمى بالـ (فرانكو أراب).

 

أسباب الغزو اللغوي

لا نسعى هنا لإثارة النعرات والصرخات الانتمائية والأصولية والتي تفتقر لتحليل الواقع وتشخيص الحلول، فالغرب واللغات الأجنبية لم تكن لتستطيع فرض نفسها في واقع حياتنا دون مبررات ومقدمات مفهومة، فالموضوع ليس مجرد الغزو أو الاحتلال، فمثلا لقد احتل الهكسوس مصر في العصور السحيقة ولكن لم يلاحَظ تحول كبير في اللغة أو العادات عند المصريين بل حدث العكس، فالهكسوس وهم قبائل بربرية لم تكن تمتلك هذا الإرث الضخم والحضور القوي في مجال العلوم والفنون؛ فبدلا من أن يطرحوا هم بديلا حضاريا أقوى وأعمق من النموذج المصري وجدوا أنفسهم مضطرين لترك عادتهم ولغتهم وتقاليدهم والتعرف على الحضارة المصرية وتعلم فنونها وعلومها. 

لم يقتصر الموضوع على العلم بل دخل في صيحات الملابس واختيار الأسماء، فلبس الملوك الهكسوس اللباس المصري وتكلموا بالمصري حتى اختفت الفوارق تقريبا واندمجوا بشكل شبه كامل في الواقع الاجتماعي المصري.

إذا فليس شرطا أن يكون الاحتلال وحده السبب الرئيسي في انهيار اللغة أو اضمحلالها، فاللغة المدعومة بمنظومة فكرية وعلمية ودينية واقتصادية قوية تجدها أقوى في مقاومة الغزو الفكري والثقافي أيا كان مصدره.

الترجمة واللغة

إن العلم في ذاته هو تراكم للخبرات والاجتهادات الإنسانية فهو ليس إذا إرثا لأحد دون الآخر بل هو إرث إنساني مشترك (يدخل في المشتركات الحضارية) على عكس الرؤية الكونية أو الثيولوجيا والتي تصنف كخصائص حضارية تتميز بها كل حضارة عن الأخرى، ولكن ولاختلاف اللغة بين الحضارات وبين الشعوب في نفس الحضارة فلقد كانت ومنذ قديم الأزل حركات الترجمة المحرك الرئيسي لدفع الحضارة ومعها اللغة نحو الاستمرارية والتطور وتجديد الروابط مع الواقع الإنساني.

ظهرت ثورات الترجمة وأثبتت على مر التاريخ أن دورها هام في تجديد دم الحضارات والحفاظ على نشاطها، فالرومان درسوا الفنون والعلوم في اليونان ثم نقلوها لبلادهم وطوروا عليها، وحضارة اليونان بدورها بدأت مسارها الحضاري بالنقل والتعلم من الحضارات التي سبقتها فتعلمت من الحضارة المصرية والفارسية. 

أما حضارات النيل وما بين النهرين فلقد سُجل عنها في التاريخ غزارة التفاعل الحضاري من خلال التجارة وتناقل الخبرات والعلوم مما أسس لهذا البحر الزاخر من الإرث العلمي والحضاري القوي والذي كان متاحا فقط للمتمكن من فك رموز اللغات الغريبة عنه.

ثم جاء عصر الحضارة الإسلامية والتي تفجرت فيها حركات الترجمة بغزارة مثل غيرها من الحضارات كمًا وكيفًا خاصة مع توسع فتوحات الدولة الإسلامية وتواصلها مع حضارات الهند والصين والفرس شرقا والإغريق والبيزنطيين (الوريث الشرعي للرومان) شمالا. 

كان لابد من نمو حركات الترجمة والتي بدأت أولا بالترجمات اللغوية أو الحرفية فكانت ضعيفة غير معبرة عن المعاني بقدر كونها مجرد تصاوير للألفاظ، ثم تطورت إلى مرحلة الترجمة المعنوية والتي اهتمت بالمعنى المجرد الذي يشير له اللفظ (الوجود المعنوي لا اللفظي، فكانت تراجم الفارابي على سبيل المثال لكتب أرسطو وشروحاته لبعض منها السبيل الذي مهد لابن سينا ومن تلاه من المنطقيين والفلاسفة أن يقدموا للإرث الإنساني والحضاري ما قدموه من اجتهادات لا نزال نتناولها ليومنا هذا. 

فاعلم أنك عندما تفتح كتابا للفلسفة أو المنطق أو الجبر أو ماشابه فستجد أن هناك بعض اللفظات والعبارات المبعثرة هنا وهناك والتي تناقلتها الأجيال جيلا بعد جيل بداية من أرسطو أو أفلاطون أو فيثاغورس مثلا.

وهذا العرض يوضح مدى أهمية حركة الترجمة والتعرف على اللغات الأخرى ويدل بصورة أو بأخرى أن تعلم اللغات الجديدة ليس بالضرورة السبب في ضياع الهوية اللغوية للحضارة بل قد يكون السبب في إثراءها وتطعيمها بالمفاهيم والعلاقات الجديدية عليها والتي تساعد على تطورها وبقائها.

المدارس العلمية واللغة

ثم بعد التراجم والشروحات يأتي دور المدارس العلمية في تناقل وحفظ هذا الكم المهول من المعلومات، فتوفرت في كل هذه الحضارات العوامل الرئيسية لتطور الحصيلة العلمية الإنسانية فكان هناك الأستاذ المحقق والمجدد وطالب العلم المخلص المتفاني والكتاب المتقن الدقيق، فكان الأستاذ الماهر لا يعتمد على التلقين فحسب ولكن على الإفهام والتحليل ليتمكن التلميذ من إتقان المسائل المتنوعة بشكل كافي يسمح له أن يدخل في مرحلة التجديد والابتكار، وكان التلميذ المتفاني معروفًا بشغفه للعلم والمعرفة وكانت الأسرة لها دور ففي الحالات المحظوظة ينمو الطالب في جو سليم أسريا وأكاديميا يسمح له أن يهتم بدراسته.

ولذلك كانت قوة المنظومة التعليمية وإفرازها المستمر للقدرات الذهنية العلمية الجديدة حافزا وعاملا أساسيا لتطور العلوم والفنون في تلك الحضارة، طبعا كان هناك دورا للدولة في إتمام المشاريع العلمية العملاقة التي تزيد من قوة العلماء في التحقيق والدراسة كبناء الجامعات وتحديد المرتبات لطلبة العلم وإنشاء المعامل والمكتبات والمراصد الفلكية.

التطور العلمي واللغة

ثم تأتي الثمرة لهذا البناء العملاق. فبعد تكوين مخزون هائل من العلوم وتدارسها وتفهمها، تبدأ المنظومة العلمية في أن تؤثر في واقع الإنسان وتنتقل من دور المتلقي لدور المبدع والمبتكر، فتستخدم المبادئ العلمية والتطبيقية في تنظيم شؤون المجتمع ودفع عجلة التطور والحضارة نحو المستقبل. 

تقدم المؤسسة العلمية في هذه العملية للمجتمع الكثير من أساليب التنظيم والإدارة وآلات الإنتاج والتصنيع وتنسق لكل من تلك التطويرات منظومة من الألفاظ والكلمات التي توصف دقة وكيفية عملها مما يضيف إلى المخزون اللغوي بصورة مترابطة مع واقع المجتمع وحياته، هذه الإضافة تكون جوهرية ومميزة وذاتية لتلك الحضارة فلا تضيع بسهولة، على عكس حركات الترجمة والتأليف الساذجة التي لا تتعدى كونها تلاعب وتشكيل بالألفاظ لخلق ألفاظ جديدة والتي وإن كانت متقنة فإنها لن تعلق في ذهن الحضارة أو المجتمع لأنها لم تأتِ كثمرة لمجهود تفاعلي ضخم بين المجتمع الإنساني والواقع واللغة، ففي النموذج الحضاري الكامل لا يكون تاريخ اللفظ مجرد نزوة لغوية لمترجم في غرفة مغلقة كي ينسى بسهولة بل ينتج من تراكم مجهودات وتحليلات عظيمة وتجارب ومعاناة لتصنع فكرة أو آلة أو معنى جدبد مما يجعل هناك اعتزازا وافتخارا باستخدام اللفظ الذي يشير لهذا المعنى في هذه اللغة دون غيرها.

قيمة اللغة

ومن هذا التحليل يتضح بعد آخر للغة في حياة المجتمع والحضارات، فاللفظ المستخدم ليس تجريدا للفكرة التي يعبر عنها فقط، بل إنه يحمل معه تاريخ هذه الفكرة أيضا ومعها الكثير من الأسماء والمعارك والتضحيات والتجارب والذكريات السعيدة والحزينة. وإنه كلما زاد التراكم التاريخي والإنساني وراء اللفظ زاد ارتباط الإنسان به وفضله على غيره من الألفاظ المستحدثة.

ولهذا نجد أن دعوتنا لإحياء اللغة العربية وإعادتها لمكانتها التي كانت عليها يوما ليست دعوة للاهتمام بباب دون آخر أو نوع من المجهود الإنساني دون غيره، بل هي دعوة لإحياء الإنسان العربي ككل. 

وبهذا تصل إلى أن إحياء اللغة لن يكون هو البداية بل سيكون الثمرة لمجهود أمة ترفض أن تنسى تاريخها أو تستسلم في حاضرها أو تبيع مستقبلها. نحن كما ذكرنا سابقا لا نريد الهتاف الحماسي والدعوات الفارغة التي لا تصاحبها غير بعض محاولات الترجمة الضعيفة التي سرعان ما تنتهي بلا شيء. 

نحن نوجه دعوة للإنسان العربي أن يعمل بدلا أن يتكلم وأن يفكر دون أن يتعصب وأن يستدل بالعقل قبل أن ينفعل بالأهواء والاستحسانات العاطفية، فقبل أن نبني اللغة العربية علينا أن نبني الإنسان العربي. 

ففي رأيي المتواضع أن اللغة هي الهوية ليس لأنها تنتج الهوية بل لأنها اختزال لتلك الهوية الموجودة فعلا

التعليقات